يذكرنى ما يحدث الآن فى مصر براوية الشاعر الروسى العظيم "ليرمانتوف" "بطل من هذا الزمان" أو "بطل من زماننا".. والرواية تحكى قصة أحد النبلاء الروس فى العصر القيصرى يسمى "بتشورين" وكعادة النبلاء فى زمن القياصرة، فقد كان النبيل "بتشورين" يعانى من البطالة، ولذلك كان يقضى أوقات فراغه بحثا عن دور أو عمل.. فترك الجيش والفروسية واهتم بالحفلات والمجون والخمر ومغازلة النساء حتى تحرش به أحد ضباط القيصر ودعاه لمبارزة بزعم أن بتشورين أهانه، وبالطبع قتل بتشورين فى المبارزة.
ولكراهية المعارضة الروسية (الديسمبريين حينذلك) للجندرمه ـ أى جند القيصر ورجال الحاشيةـ تحول بتشورين من ضحية إلى بطل!! من وجهة نظر المعارضة، مما أثار ليرمانتوف، فكتب روايته التى أشاد بها كبار النقاد فيما بعد مثل "بلينسكى ولونتشارسكى"، واعتبروها نموذجا لإدانة العصر بكامله من القياصرة إلى معارضيهم بل وبعض فئات الشعب، لأنهم جميعا لم يفرزوا نموذجا للبطل سوى بتشورين!.
لست أدرى لماذا تذكرت تلك الرواية إبان الاعتداء بالضرب على المرحوم خالد سعيد فى الشارع من قبل بعض رجال الشرطة، الأمر الذى أدى إلى وفاته وسط واحد من أهم أحياء الإسكندرية "كليوباترا" فى شارع "بوباستس" المتفرع من واحد من أشهر شوارع الإسكندرية "بورسعيد".
والمرحوم خالد سعيد أحد أبناء أسرة إسكندرانية محترمة شأنها شأن معظم الفئات العليا من الطبقة الوسطى، ووفق تقارير وروايات الأمن فخالد أنهى خدمته العسكرية بتوصيف (رديئة) وله علاقه بتعاطى المخدرات، وبغض النظر عن صدق أو كذب هذه التقارير، فإن أكثر من أربعمائة ألف شاب وشابه تلبستهم روح خالد وانتفضوا فى مواجهة الشرطة والنظام يتقدمهم نخبة من رموز المعارضة الجديدة بقيادة د. محمد البرادعى، هؤلاء الذين اختلفوا وتفرقوا منذ أسابيع من حول الجمعية المصرية للتغيير.. هل جمعهم الموقف ضد التعذيب؟ أم أنهم يستغلون دماء الضحية من أجل معارضة النظام؟ أم كلا الاحتمالين؟!
ومع خالص العزاء لأسرة المرحوم خالد سعيد، فالتأكيد على موقفي المبدئى ضد تعذيب أى إنسان أو حتى حيوان.. فهل خالد سعيد بطل أم ضحية؟؟ أم أنه رمز لجيل لا يعتبر خدمة القوات المسلحة شرفا، ولهم فى المغنى تامر حسنى أسوة حسنة!! كما أنهم وقد أنهكتهم البطالة والبحث عن عمل أرادوا القصاص من المتسببين فى ذلك واختاروا الشرطة رمزاً لأكثر أجنحة الحكم بطشاً وإهانة لكرامة المواطنين لكى يحولوا المرحوم خالد من ضحية إلى بطل ويتماهون معه كأبطال لهذا الزمان، وبالطبع لن يصدق هؤلاء الشباب إلا ما اعتنقوا من قناعات ضد أركان النظام، خاصة وهم يشاهدون قلاع القضاء الحصينة بشقيها الجالس والواقف فى صراع عنيف، كما أنهم لن يصدقوا لا الدكتور البردعى ولا مريديه، مع كامل احترامى لهم، لأن الشباب من أنصار المرحوم خالد يعتقدون أن هؤلاء الزعماء الجدد يركبون الموجه كما أن بعضهم يستغل دماء خالد كوقود للعداء للنظام!
وعدت اليوم للخلف ربع قرن لاستحضار حالة مشابهة، وهى استشهاد بطل من زمان آخر (سليمان خاطر 1986) جندى الأمن المركزى الذى قتل بعض المدنيين الإسرائيليين على الحدود المصرية الإسرائيلية وإبان وجوده بالسجن مات شنقاً وأكد تقرير الطبيب الشرعى حينذاك أنه انتحر!! ومع فارق التشبيه بين سليمان خاطر وخالد سعيد واختلاف الزمن، إلا أن حالة عدم الثقة فى النظام السياسى جعلت أبناء جيلى لم يصدقوا هذه التقارير مثلما لم يصدق أبناء جيل خالد سعيد الذين ولدوا أثناء أو بعد مقتل سليمان خاطر تقرير الطب الشرعى الخاص بخالد سعيد، ومع كامل احترامنا لدماء كل من سليمان خاطر وخالد سعيد.. وكل منهما رمز لجيل يجسد قضايا بعينها ويعكس فكر مرحلة تفرز أبطالها وزعماءها: الراحل إبراهيم شكرى وخالد محيى الدين أطال الله عمره (فى ثمانينيات القرن الماضى) إلى الدكاترة محمد البرادعى وأيمن نور الآن!
ويبقى السؤال الملح: لو كان هناك ثلاثة من مئات الآلاف الذين يتضامنون الآن مع المرحوم خالد قد قاموا بالدفاع عنه فى مواجهة مخبرين سريين من الرتب الأدنى فى الشرطة المصرية..
فهل كان سيقتل الضحية بهذه الطريقة؟ أم أننا ورثنا البكاء على الضحايا دون الدفاع عنهم منذ مشهد اغتيال سيدنا الحسين، رضى الله عنه، فى تجسيد للشعور بالذنب كعادة المقهورين؟
ولو كان السادة المحترمون دعاة التغيير الجدد من مريدى البرادعي أو الجمعية المصرية للتغيير قد أعلنوا برنامجاً يتصدى لسرطان البطالة والدفاع عن الشباب الذين أصابتهم البطالة بفقدان الأمل وألقاهم غياب الأمل لحضن المخدرات التى سلمتهم لمخالب الشرطة.. فهل كان أمثال المرحوم خالد سوف يكون مصيرهم هكذا؟ أم أن زعماءنا الجدد ينطبق عليهم المثل الشعبى الذى يقول "وزغردى يا اللى ما انتيش غرمانه"!!
إننا أمام جدارية تعبر عن مأساة إنسانية لوطن تحول فيه التعذيب إلى ثقافة، وتعاطى المخدرات حلاً للخروج من الأزمات الشخصية، والشاب القوى (الفتوه) رمزاً.. وكأننا نعود للخلف لعشرينينات القرن الماضى لفتوات نجيب محفوظ الصالحين من أولاد عاشور الناجى الذين يسلمون الراية لأحفاده فى حوارى الإسكندرية الكوزموبوليتانية سابقاً!
ولا ننسى أن ننظر نحو ذروة المأساه وهى أن التغيير فى هذا الوطن قد تحول من عملية اجتماعية وسياسية وثقافية إلى مهنة لبعض ممن يعانون من البطالة السياسية الباحثون عن دور.." والفاضى يعمل قائدا" حيث تتزاوج وظيفة التغيير مع وظيفة الإعلام وبزينس الإعلان.
وسيظل التواطؤ من قبل رجال الإعلام والصحفيين والمفكرين مع تجاعيد وجوه هذه الظواهر السلبية على تلك الجدارية المقيته التى يتحول فيها الضحايا إلى أبطال أكبر داعم لاستقرار الحكم الفاسد وسياسية القمع، لأن أصحاب المصلحة الحقيقية للتغيير المجتمعى يعرفون الفرق بين المهزلة والواقع.. رحم الله سليمان خاطر وخالد سعيد لأنهما ضحايا لأجيال تبحث عن أبطال.. أجيال تبحث عن رموز حقيقيين للتغيير ليسوا على شاكلة زعماء talk show الحاليين.
أعتقد أن النظام لن يجد معارضة أفضل من تلك المعارضة لتثبيت أركانه.. ورحم الله زعماء كبارا مثل سعد زغلول، هدى شعراوى، مصطفى النحاس، إبراهيم شكرى وأطال الله عمر خالد محيى الدين حينما كان للزعماء ملفات فى الأمن السياسى قبل أن يحمل بعض زعمائنا الآن ملفات فى الأمن الجنائى وهذا هو كاسك يا وطن بفعل عوامل التعرية الوطنية والفعل الإعلامى للفوضى الخلاقة والثورات المتعددة الألوان التى خلقت كل أبطال هذا الزمان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة