فى واحدة من حلقات برنامجه الرائع "عصير الكتب"، كان الكاتب اللامع متعدد المواهب بلال فضل فى قمة تألقه أثناء حلقة البرنامج الأخيرة، والتى دارت حول فقيدنا الكبير أسامة أنور عكاشة، ومع تعدد إطلالات بلال الجميلة على أسامة المبدع والإنسان والموقف، قال كلاما يدمى القلب فيما يتعلق بالمواقع الإلكترونية السلفية التى وصلت إلى حد تكفير الرجل الذى أبكانا فراقه، وانتقل إلى رحاب ربه مسبوقا بدعوات الملايين له بالمغفرة.
كان أسامة كما قال بلال إنسانا مؤمنا بربه أعظم الإيمان، ويعمل لدينه أعظم مما فعله شيوخ التكفير الذين يفصلون الدين على مقاسهم الخاص، وبوسعهم أن يكفروا كل الذين يخالفونهم الرأى، وهى الآفة التى عادت بنا إلى التخلف حتى أصبحنا أمة تضحك عليها الأمم.
لم يكن أسامة مسلما على طريقة اللحى الخادعة، والكروش المنتفخة بأموال لا يعرف أحد مصدرها، كان مسلما على قاعدة أعظم ما فى الدين الإسلامى وهو "قول كلمة الحق فى وجه حاكم جائر"، وفعل ذلك وهو معتصم بحبل الله المفتول بإشاعة الفضيلة، وتنوير العقل، وارتقاء الوجدان ، والتمسك بالحقيقة مهما كلفه ذلك من خسارة ، ولأن رب العباد عندما يحب عبدا من عباده ينادى فى الناس أن يحبوه، ولأن رب العباد أحب أسامة، أحبه الملايين باستثناء شيوخ التكفير الذين يعتبرون أنفسهم وكلاء الله على الأرض، والله وحده يعلم بما فى النفوس.
لم يهاجم أسامة أنور عكاشة الإسلام يوما، وإنما قال رأيه فى الصحابى عمرو بن العاص، وقال صراحة إنه لا يحبه، وهذا أمر لا يسحب منه أبدا إسلامه، كما أنه يخضع إلى إشكالية تاريخية فى ديننا الإسلامى، خاصة فى موقفه مع معاوية بن أبى سفيان ضد على بن أبى طالب رضى الله عنهما، وهذا أمر يخضع للتقييم السياسى وليس الدينى، وفى السياسة كل شىء قابل للتفسير.
تاريخ أسامة أنور عكاشة ناصع بما فيه الكفاية، فهو لم يتخذ إبداعه وسيلة للثراء كما يفعل شيوخ التكفير، كان أسامة بكل توهجه فى الإبداع قادرا على أن يحصد الملايين لو اختار الانتصار لموجة التمسك بقشور الدين، لكنه اختار خطاب العقل كما فعل قديما ابن رشد الذى طوقته جحافل الإرهاب فحرقت مكتبته ومؤلفاته، وبعد قرون نكتشف أننا فى حاجة إليه، والسلسة تطول فى الأمثلة، ولعلنا نتذكر أيضا كم سارعت هذه الموجة المتخلفة بتكفير الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش بعد موته أيضا، على الرغم من كل ما قدمه من إبداع فى الشعر جعله شاعر العربية الأول بامتياز.
أسامة أنور عكاشة هو رسول الإبداع الذى يسير ضد موجة الانحطاط السائدة، ولأن القاعدة تقول إن كل من يسير ضد التيار السائد سيجد رفضا يتزعمه صغار، فمن الطبيعى أن نجد هؤلاء الصغار يهاجمون قيمة بوزن أسامة .
تحية أخرى إلى بلال فضل الذى لم يدافع عن أسامة أنور عكاشة فأعماله تدافع عنه، وإنما فضح الذين اعتبروا أسامة "كافرا"، وهم يستحقون الفضيحة.