محمد حماد

هذا الهبل النبيل

الأربعاء، 09 يونيو 2010 07:09 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حتى لا يزايد علىَّ أحد فيقول كيف تكتب العامية؟ ذهبت مباشرة إلى مختار الصحاح فلم أجد ما يعيننى على رفض المزايدة، ولكن المنجد فى اللغة أسعفنى إلى ما أريد، وجدت فيه أن الرجل إذا أهبل تعنى أنه فقد عقله، والهبل عند العامة يعنى العته والبله، والأهبل هو فاقد العقل والتمييز، وهذا هو ما قصدته، فتعالوا نبدأ المقال بعيداً عن هذه الملاحظة.

والأهبلان اللذين أعنيهما، واحد عربى، هو العربى الوحيد الذى يستحق بجدارة هذا اللقب واسمه عبد الرحمن سوار الذهب، والآخر مسلم من ماليزيا فى أقصى الأرض اسمه محاضر محمد "يقولون عليه مهاتير كما تنطقها الفرنجة"، وهما الحاكمان الوحيدان فى أمة العرب وأمة المسلمين اللذان خرجا من الحكم بإرادتهما، وبطريقة سلسة لا تعقيد فيها ولا تلكؤ ولو لساعة واحدة، فاستحقا عن جدارة هذا اللقب النبيل.

ولأنه الوحيد فى أمة العرب الذى فعلها، فقد اعتبر البعض تنازله عن الحكم طواعية ضرباً من الجنون، أن يتنازل وبطيب خاطر ونفس منشرحة عما يتقاتل عليه الحكام ولا يتخلون عنه إلا بسفك الدماء، أن يترك المقعد الذى يتنافس عليه المتنافسون منذ تجمع البشر فى مجموعات، أن يترك مقعد الرئيس، فهو لا شك الجنون بعينه، قد يتنازل المرء عن قطعة أرض يملكها، أو عن عقار ورثه، أو عن أشياء كثيرة يبذلها دون أن يطرف له جفن، ولكن أن يتنازل عن السلطة المطلقة وهى بين يديه، السلطة التى تعطيه النفوذ والجبروت والقوة، وتمنحه القصور والمنتجعات والخدم والحشم والأموال السرية فى بنوك سويسرا، السلطة التى تخصه بإصدار المراسيم والقرارات الجمهورية، والتوجيهات الرئاسية، والأوامر التى لا ترد ولا تستأنف، أن يتنازل عن كل هذا، فهذا لا شك هبلٌ ليس بعده هبل.

هل يعرف أحد منكم أو من آبائكم أو أجدادكم أن حاكما عربياً ملَّ من السلطة، أو شبع منها، أو تركها عن طيب خاطر قبل أن توافيه المنية التى لا توافيه فى العادة إلا بعد أن يموت نصف شعبه، ويشرد نصفه الآخر فى ربوع الدنيا بحثاً عن لقمة العيش، ليس فى تاريخنا الحديث على الأقل حاكم عربى واحد تخلى عن كرسى الرئيس بإرادته، لم نعرف فى حياتنا ولا فى حياة آبائنا حاكماً سابقاً على قيد الحياة، الرئيس السابق عندنا هو الرئيس الذى وافته المنية.

لكن عبد الرحمن سوار الذهب فعلها، ذلك الضابط الكبير فى الجيش السودانى سليل العائلة الثرية المعروفة فى بلاده، قاد مع رفاق له من كبار ضباط المؤسسة العسكرية السودانية انقلاباً عسكرياً على نظام جعفر نميرى، وبسلاسة كبيرة نجح الانقلاب على الرئيس الذى لم يكن يحتفظ بعلاقات ودية مع الكثير من جيرانه ولا فى محيطه العربى ولا مع كثير من بلدان العالم، وكان فقد احترام الأكثرية السودانية بعد أن تقلب بين اليمين واليسار والإسلاميين، يستخدمهم جميعاً لبقاء نظامه ثم ينقلب عليهم، حتى بات بلا صديق فى الداخل ولا فى الخارج، فجاء الانقلاب عليه كأنه تعبير عن رغبة محلية وإقليمية ودولية اجتمعت على رفعه من الخدمة واستبداله بنظام آخر أكثر عقلانية واحتراماً من نظام نميرى.

وتعهد سوار الذهب بنقل السلطة إلى حكومة مدنية بعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وكان يمكنه أن يفعل مثلما فعل الانقلابيون قبله، ألا يفى بوعده وأن يخلف عهده، ولكنه تمسك بما وعد به، وأنفذ ما عاهد مواطنيه عليه، ولم تكد تمر سنة حتى خرج من السلطة وسلَّمها إلى من أتت بهم الانتخابات التى شهد لها العالم، وعاد سوار الذهب إلى موقعه المحبب إليه، إلى موقع المواطن والرئيس السابق، فكان وحده الذى فعلها من حكام العرب قاطبة.

والأهبل الثانى هو محاضر محمد الطبيب، الذى ولد عام 1925م، درس الطب وتخرج طبيباً فى جامعة الملاى فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، وتم تعيينه وزيراً للتعليم ثم نائباً لرئيس الوزراء، وفى العام نفسه الذى تولى فيه الرئيس مبارك حكم مصر تولى الدكتور محاضر محمد رئاسة الحكومة فى ماليزيا، عام 1981، وظل فى موقعه عشرين سنة، وصلت ماليزيا خلالها ذرى لم تصل إليها دولة إسلامية أخرى، حتى اقترب نصيب الفرد الماليزى من الدخل القومى إلى 10 آلاف دولار سنوياً، وحقق السلام الداخلى من خلال سياسات إنتاجية وتنموية، ورفض تطبيق وصفات البنك والصندوق الدوليين على اقتصاد بلاده، وتحدى الصلف الأمريكى، وأسمع أمريكا وإسرائيل ما لم تسمعه من أى حاكم عربى، وبعدما أحس أن ماليزيا على الطريق الصحيح، وقد حققت ما حققته من تقدم ورقى فى عهده خرج على الناس، وقال: (وقتى انتهى، لن أتولى أى مسئوليات رسمية بعد 31 أكتوبر 2003، لأنه من المهم أن يتولى قيادة ماليزيا جيل جديد بفكر جديد)، وترك الدكتور المفكر محاضر محمد الموقع الذى لا يتركه أحد، ويتشبث به الكثيرون، سواء حققوا شيئاً لشعوبهم أو لم يحققوا، باقون إلى أن توافيهم المنية، يقفون بكل ما أوتوا من قوة وتسلط ضد فكرة التغيير.

عاش الهبل النبيل، وربنا يعافينا من هؤلاء الذين لم يصبهم الهبل بعد.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة