زمان كان الخوف مرتبط بتلك الكوابيس المزعجة وكائناتها الغريبة، كان مصدر الخوف تلك الحواديت التى يتداولها الآباء والأجداد عن العفاريت والجن، وتلك القصص التى تستخدمها الأمهات عن أبو رجل مسلوخة وأمنا الغولة ضمن أولى محاولات التهديد والتخويف التى يتعرض لها أى طفل مصرى.
فى تلك الفترة كان المعدل الطبيعى للخوف، وهو الشجاعة، موجود ويملأ قلوب الكثيرين.. شجاعة إطلاق كلمة الحق فى وجه أى مسئول جائر، وشجاعة مصدرها الإيمان بالأفكار وبالوطن والدفاع عنها مهما كانت العواقب مخيفة ومؤلمة، وشجاعة أن تطمئن لسير أولادك وبناتك وأهل بيتك فى الشوارع، لأنك تعلم أن الشهامة والرجولة ستدافع عنهم، وبجانب الشجاعة كانت هناك أحلام..
نظام سياسى وليد يصنع أحلام كبرى من أجل مستقبل أفضل، وحتى من قبل هذا النظام الذى ولد فى يوليو 52 كانت أحلام المستقبل تراود المصريين ويصنعها أولئك الذين كانوا يمتلكون صوت الشجاعة السياسية ولا يهابون المخاطر من أجل ما يُؤمنون، ويساندون ما يرونه حقا أخلاقيا، بدلاً منْ مساندة ما قد يكون مناسبا سياسياً، مصطفى كامل كان كذلك وسعد زغلول ومحمد فريد والعقاد وطه حسين وغيرهم من الشخصيات التى منحت المصريين وقتها القدرة على حصار الخوف والقدرة على الحلم بذلك المستقبل الأفضل..
كان هذا فى الماضى وكان كافيا لأن يردع الخوف ويحد من انتشاره، أما الآن فلا شىء يقف فى طريق الخوف.. لا شجاعة تحاصره ولا أحلام يزرعها مسئولون شرفاء تكسر شوكته وتحد من انتشاره، فقط فوضى وضباب يمحو صورة المستقبل ويزيد من انتشار الخوف ويمنحه قوة فوق قوته.. ففى بلد.. 88% من كفوره ونجوعه وقراه بلا صرف صحى، وتقول الدراسات اليومية أن 76 ألف قضية فساد يتم اكتشافها فى العام.. لابد أن تخاف ولابد أن تتأكد أن هذا البلد يعوم على بركة من الرعب.
الخوف هو صاحب الكلمة الأولى فى هذا الوطن، ونحن هنا لا نتكلم عن ذلك الخوف المرضى أو تلك الفوبيا التى تتملك البعض من الأماكن المرتفعة أو المغلقة أو من بعض الحيوانات، ولا نتكلم أيضا عن ذلك الخوف الطفولى من أمنا الغولة أو أبو رجل مسلوخة، فتلك أنواع من الخوف إن تمت مقارنتها بنوع الخوف السائد فى قلوب وعقول المصريين لاكتشفنا أنها خوف ترفيهى للمتعة والانبساط، نحن نتكلم عن بعد أعمق للخوف، عن وطن يفقد استقراره والاستقرار كما يقول علماء السياسة هو العدو الأول للخوف.
نحن نتكلم عن وطن يدفع الخوف أبناءه للموت انتحارا رعبا مما قد يأتى به المستقبل.. وهل شىء آخر سوى الخوف هو الذى دفع أب فيصل للانتحار بعد أن فشل فى توفير مصاريف أولاده؟ وهل يوجد شىء آخر سوى الخوف هو الذى يدفع مئات الشباب للانتحار شنقا وبالسم وعلى قضبان المترو؟ وهل يوجد شىء آخر سوى الخوف هو الذى يدفع رجال الأعمال للهرب أو تهريب المليارات إلى سويسرا وأوروبا رعبا من لحظة فاصلة تأتى بفوضى وعنف يحصد الأخضر واليابس؟ وهل يوجد شىء آخر سوى الخوف الذى يجعل كل مستثمر أجنبى يضع يده على قلبه قبل أن يلقى بأمواله فى السوق المصرية؟ وهل يوجد شىء آخر سوى الخوف يجعل أهل السلطة فى مصر مرعوبين من كلمة التغيير؟.
فى كتابه( الخوف.. تاريخ فكرة سياسية) يعرف الكاتب الأمريكى كورى روبين الخوف السياسى أو الخوف ذا البعد الأعمق الذى تكلمنا عنه فى السطور السابقة بأنه الخوف الذى يَنبثقُ مِنْ المجتمع أَو الخوف الذى يخلق العواقب للمجتمع، مثل المخاوف التى تنتج عن النزاعات الاجتماعية أَو تنتج عن الأحداث الشخصية (كالتمييز العنصرى أو الطائفى أو المذهبى)، فالناس اجتماعيون بالطبيعة، تربطهم القيمِ المشتركة، والدين، والتقاليد، واللغة، الخ.
ولكن حينما تصبح هذه الخصائص الأساسية التى تَرْبطُ الجماعات مُهدّدة، فإن هذه الجماعات سَتَخشى زوالها، وكنتيجة لذلك، سَتُحاول التَخَلُّص مِنْ التهديد، بكل الوسائل المتاحة لها حتى وإن كانت عنيفة أو غير شرعية، هذا هو ماتعانى منه مصر الآن شروخ فى جدار أعمدة الاستقرار الاجتماعى والسياسى والدينى منها يصاحبه انتشار وتوغل للخوف والرعب محتمل وبشكل كبير أن يؤدى إلى توتر اجتماعى وسياسى ينتج عنه فوضى بلا ضابط أورابط، وهو الشىء الذى حذر من حدوثه دوما عقلاء هذا الوطن حينما طالبوا النظام الحاكم بالمضى قدما فى مسيرة الإصلاح والإنصات إلى مطالب التغيير.
بناء على ما سبق، يمكنك أن تقول وأنت مرتاح الضمير إن للخوف تنظيم فى مصر الآن، وإن لهذا التنظيم أغلبية ساحقة من الجماهير تبدأ من القاعدة، من عند الغلابة والفقراء، الذين يخشون الأسعار النار والفقر والمرض، ومرورا بأهل المعارضة الذين يخشون السجن والضرب والتعذيب وتنتهى عند أهل السلطة الذين يصيبهم الرعب من الحركات الاحتكاكية وتنامى مطلب التغيير..
الفئات الثلاثة إذن جمعهم الخوف، حتى وإن كان خوفهم درجات، حتى وإن كان خوف الغلابة على حياتهم ومستقبل أولادهم وخوف أهل السلطة على كراسيهم وثرواتهم يبقى الخوف هو الخوف، ولكن يبقى السؤال الأهم، من منهم الأكثر خوفا فى البلد؟ مين أكتر واحد بيخاف فى مصر؟ هل هو ذلك المواطن المطحون العاطل الجالس على المقاهى أو العامل بعقد مؤقت ويعيش على البقشيش والإكراميات؟، أم هو واحد من كبار المسئولين أو الوزراء أو أهل القصر الرئاسي؟.
نظرة إلى سريعة إلى ما يخشاه المصريون بعدها من الممكن أن تحصل على إجابة لسؤال مين أكتر واحد بيخاف فى مصر؟ المصريون يخشون من المرض والفقر والأسعار التى لا رابط ولا حاكم لها، ومن تزوير الانتخابات وتعطل مسيرة الإصلاح، والمستقبل الذى سيحتضن أبناءهم وأحفادهم، ومن الفاسدين الذى يسرقون الجزء الأكبر من أرزاقهم، ومن البطالة، وبطش الكبار، وقانون الطوارئ، والطرق التى لا يحكمها مرور ولا تهتم بها وزارة نقل، والمياه التى تهددها دول المنبع، والمستشفيات التى ترحم المريض الفقير.. بالإضافة إلى باقى عناصر قائمة الخوف الطويلة والتى لا يتسع أى مجال لذكرها..
راجع هذه القائمة بشويش، وحاول أن تمر على كل عنصر من العناصر التى تزرع الخوف فى نفوس المصريين، وستدرك أن كل مخاوف الغلابة يصنعها أهل السلطة، يتلاعبون بعواطف الناس.. والناس إما أنها لا تدرى أو تدرى ولكنها غير محصنة ضد هذا التلاعب الذى يصنع الخوف ويزرعه فى نفوسهم.. أما لماذا يزرع أهل السلطة الخوف فى نفس المواطنين؟ فالسبب ببساطة لأن وجود الخوف سيمنع النقاشات السياسية الجادة، ويطيح بأى فرصة للحلم أو التفكير فى إصلاح سياسى حقيقى، لأن الجمهور الذى يحس أنه تحت طائلة هجوم شرير، مثل الذى يقوده النظام فى مصر، بنشر الفقر والفساد والحكم بقوانين طوارئ سيدعم كل سياسة تُبنى على عدم التفاهم أو التفاوض مع مصدر الشر.
وبهذا تظل السلطة فى مكانها ويظل الغلابة فى أماكنهم مشغولين بمخاوفهم، ويحاربون رعبهم، ومنهكين فى محاولات التغلب عليه، ولكن هذا الخوف الذى يقطع طرق التواصل والتفاهم والتفاوض مع النظام الحاكم وأهل السلطة قد يرسخ لمفهوم جديد يتطور مع الزمن وهو أن مصدر هذا الخوف أو الشر الذى هو النظام الحاكم أو أهل السلطة يجب أن يتم قتاله حتى النهاية ويسود منطق ( إما نحن المواطنين والوطن، وإما هم أهل السلطة والمال) ومن هنا تولد الفوضى ويظهر العنف من رحم الخوف الذى زرعته السلطة فى نفوس الناس، فالغريزة تقود الخائف حينما يشتد خوفه إلى الهيجان إلى التصرف بغير عقل أو وعى، مثلما تفعل الحيوانات حينما ترى النار وتطيح بكل ما فى طريقها خوفا ورعبا.. وهذا هو أكثر ما يخيف ويرعب أهل السلطة فى مصر، إنهم خائفون من تلك اللحظة.. كل فاسد وكل وزير يتخذ قرارا خاطئا وكل رئيس أو قريب من الرئيس مرعوب من تلك اللحظة التى تقرر فيها الجماهير الخروج لصناعة التغيير، سواء كان بالفوضى أو عبر أى وسيلة أخرى منظمة.. إنهم يخشون من وقت الحساب.. ميتون فى جلدهم من أن تحين تلك اللحظة التى يقرر فيها أهل الشارع أن يثأروا لأنفسهم ولسنوات الخوف الماضية..
الملخص المفيد إذن، إن أهل الحكم هم الأكثر خوفا فى مصر والمقربون منهم هم الأكثر رعبا فى هذا البلد، لأنهم يخشون على ما يملكونه من سلطة ومال، أما المواطنون الغلابة فخوفهم سيبقى محدودا ومحصورا فى منطقة المستقبل والمجهول لأنهم ببساطة لا يملكون شيئا يخشون عليه.