خانة الديانة تعيش أزهى عصورها الآن، والصراع على المكتوب فيها يملأ قاعات المحاكم وعقول الناس، المسلمون يرفعون راية "المرتد يقتل"، والمسيحيون أيضا يفعلون ذلك، وكلاهما يغضون النظر عن المكتوب فى القرآن والإنجيل، وكل الكلام عن حرية العقيدة يتم وضعه على "رف" بجوار الحائط حينما يتم الإعلان عن شخص قرر الانتقال من المسيحية إلى الإسلام أو من الإسلام إلى المسيحية، العديد من الفقهاء أقروا بأن عقوبة المرتد هى القتل، ولكن هناك الكثير من الآراء التى وضعها عدد آخر من الفقهاء والعلماء المسلمين ترفض تماما الاعتراف بتلك العقوبة، وتأتى بدلائل تنسف الفكرة من الأساس، ما بين النص القرآنى "لا إكراه فى الدين" ووالنص الحديثى "من بدل دينه فاقتلوه" توجد الكثير من السطور والعديد من الآراء والمعارك..
الردة وحكمها وعقوبتها عامل أساسى فى تلك المعارك، وقضية تثير العديد من التساؤلات والمشكلة الأكبر فى مسألة "الردة" هى تحويلها نحو الاتجاه السياسى، فخروجها من إطارها الدينى كان سببا مهما فى حصولها على تلك الضجة، خاصة حينما تلجأ بعض الأنظمة الديكتاتورية إلى استخدامها لإرعاب وعقاب معارضيها وأمثلة كثيرة شهدتها مصر بداية من الشيخ على عبد الرازق ومرورا بالدكتور نصر حامد أبو زيد وعشرات مثلهم تم تكفيرهم فى غمضة عين والمطالبة بتطبيق حد الردة عليهم.. القتل.
ولكى لا يكون الكلام من دماغى ولكى يكون موثقا ونابع من مصادر تتمتع بالثقة الكافية، دعونى أنقل لكم ثلاثة اتجاهات فقهية مختفلة للتعامل مع قضية الردة لثلاثة علماء ومشايخ نحسب أنهم يتمتعون بثقة واحترام الأغلب الأعم من الناس..
الشيخ الدكتور يوسف القرضاوى يقول فى هذا الأمر: "إن فقهاء الإسلام أجمعوا على عقوبة المرتد لأن المرتدين "المارقين" خطر على المجتمع المسلم، ولكن الفقهاء اختلفوا فى تحديد العقوبة، وقسم القرضاوى الردة إلى نوعين ردة مغلظة وردة مخففة، مستندا فى هذا التقسيم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية والذى قال: "إن النبى - صلى الله عليه وسلم - قبل توبة جماعة من المرتدين، وأمر بقتل جماعة آخرين، ضموا إلى الردة أمورًا أخرى تتضمن الأذى والضرر للإسلام والمسلمين. مثل أمره بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح، لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم. وأمر بقتل ابن أبى سرح، لما ضم إلى ردته الطعن والافتراء".
وهنا نجد أن ابن تيمية قد فرق بين نوعين من الردة: الأولى الردة المجردة التى تقبل معها التوبة، والثانية الردة التى فيها محاربة لله ورسوله والسعى فى الأرض بالفساد لا تُقبل فيها التوبة قبل القدر.
وحتى تتضح أكثر رؤية ابن تيمية لمسألة الردة هناك مثال لابد أن نرويه، فقد روى عبد الرازق والبيهقى وابن حزم: "أن أنسًا عاد من سفر فقدم على عمر، فسأله: "ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام، فلحقوا بالمشركين؟ قال: "يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين، قتلوا بالمعركة". فاسترجع عمر، أى قال: "إنَّا لله وإنا إليه راجعون"، قال أنس: هل كان سبيلهم إلا إلى القتل؟ قال: "نعم، كنت أعرض عليهم الإسلام فإن أبوا أودعتهم السجن". وهذا هو قول إبراهيم النخعى، وكذلك قال الثورى. هذا ما فعله سيدنا عمر - رضى الله عنه - وهذا ما سار عليه العلماء فى التفريق بين أمر الردة المغلظة والردة المخففة، كما فرقوا فى أمر البدعة المغلظة والبدعة المخففة.
القرضاوى يرى أن الردة المغلظة هى التى يكون فيها المرتد داعيا إلى بدعته بلسانه أو بقلمه نشطا فى التجريح فى الإسلام والمسلمين وقول الزور والبهتان على الدين، وفى هذه الحالة يرى القرضاوى أنه من باب أولى التغليظ فى العقوبة، والأخذ بقول جمهور العلماء وظاهر الحديث استئصالا للشر والفساد.
الردة إذن.. بالنسبة للقرضاوى ليست مجرد موقف عقلى يقتصر الحديث فيها على مناقشة مبدأ حرية الاعتقاد، بل هو يعتبرها أيضًا تغييرا للولاء، وتبديلا للهوية، وتحويلا للانتماء. ومن هنا هو يفسر سبب تشديد عقوبتها، لأن المرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى، ومن وطن إلى وطن آخر.
أخطر أنواع الردة التى ذكرها القرضاوى هى ردة السلطان وقال عنها القرضاوى: "وأخطر أنواع الردة: ردة السلطان، ردة الحاكم الذى يُفترَض فيه أن يحرس عقيدة الأمة، فتجده ينشر الفسوق سافرًا ومقنعًا، نرى هذا الصنف من الحكام، مواليًا لأعداء الله، معاديًا لأولياء الله، مستهينًا بالعقيدة، مستخفًا بالشريعة، غير موقِّر للأوامر والنواهى الإلهية والنبوية، مهينًا لكل مقدسات الأمة ورموزها، وهؤلاء يعتبرون التمسك بفرائض الإسلام جريمة وتطرفًا مثل الصلاة فى المساجد للرجال، والحجاب للنساء، ولا يكتفون بذلك، بل يعملون وفق فلسفة "تجفيف المنابع" التى جاهروا بها فى التعليم والإعلام والثقافة، حتى لا تنشأ عقلية مسلمة، ولا نفسية مسلمة".
الآيات القرآنية الكريمة التى ورد بها ذكر الردة أو الحديث عن ترك الدين أو الكفر بعد الإيمان كثيرة ومنها: ("مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ، لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (النحل: 106 – 109). وفى قوله تعالى: "أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" (البقرة: 108). وفى قوله تعالى: "كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ" (آل عمران: 86– 90). وفى السورة نفسها نجد قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (آل عمران: 177). كما ورد تعبير الكفر بعد الإيمان فى سورة النساء فى قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً" (النساء: 137). وفى سورة التوبة: "لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ" (التوبة: 66).
أما تعبير الردة، فقد ورد فى قوله تعالى: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 217).
فى هذه الآيات وغيرها التى ورد بها معنى الردة لا يوجد أى نص يتحدث عن عقوبة دنيوية ولا إشارة تقول بأن القرآن أمر بتوقيع عقوبة على المرتد عن الإسلام، وكل ما ذكر فى الآيات الكريمة ذكر متعلقا بتهديد بالعذاب فى الدار الاخرة.
الدكتور والمفكر محمد سليم العوا يؤكد على ذلك فى دراسة له نشرت بموقع "إسلام أون لاين" حيث قال: (لا نجد فى النصوص المتعلقة بالردة فى آيات القرآن الكريم تقديرًا لعقوبة دنيوية للمرتد، وإنما نجد فيها تهديدًا متكررًا، ووعيدًا شديدًا بالعذاب الأخروى. ولا شك فى أن مثل هذا الوعيد لا يرد إلا فى شأن معصية لا يُستهان بها، ومن هنا وطبقا لكلام الدكتور العوا فإن استنباط عقوبة المرتد أو تأسيسها على فهم بعض الآيات التى تبين عقاب المرتد فى الآخرة ينافى صريح قوله تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ".
وغدا نستكمل باقى الكلام مع باقى الآراء الفقهية ونقدم تحليلا لموقف كتب الحديث الشريف من مسألة الردة.. وعلى من نطلق لقب المرتد؟ وهل توجد عقوبة دنيوية أخرى للردة غير القتل؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة