كانت تؤدى ذلك الفعل البشرى العادى الذى يعشق أهل النظافة من البشر تكراره فى أيام الحر.. داخل الحمام تقف عارية كما ولدتها أمها مستمتعة بماء الدش البارد، لم يتسرب إلى ذهنها ولو للحظة أن تلك الأصوات المرتفعة فى الخارج هى صرخات استغاثة من نيران تتوهج وتشتعل فى منزلها، الأم تصرخ لتحذرها، والأهل يطرقون الباب لإنقاذها من النار.. وهى لا تخرج، الحياء الذى أصبح عملة نادرة فى عصرنا غلبها، وطبع العفة أجبرها على أن تضع رعبها وذعرها وخوفها من النار خلف ظهرها وتتمهل لكى ترتدى ملابسها خجلا من أن تخرج أمام الناس كما ولدتها أمها.. النار على ما يبدو اندهشت من خجل الفتاة فقررت أن تلتهمها وأن تكون الوسيلة التى تصل روح الفتاة من خلالها إلى السماء.. وبالمرة تؤكد ذلك المثل الشعبى الرائع..«اللى اختشوا ماتوا».
السطور السابقة ليست من رواية خيالية أو قصة قديمة بل تخص فتاة عمرها 18 سنة من محافظة الأقصر نشرت صحف الحوادث قصة وفاتها أول هذا الأسبوع. أعرف أن بعضكم يهمس إلى نفسه الآن بأن تلك الفتاة إما أنها مجنونة أو معقدة أو مزوداها شويتين، وأنا معكم فى ذلك لأن المنطق يقول إن الرعب من نار الحريق والموت القادم بصحبتها يدفع أتخن تخين لأن يجرى من الحمام إلى الشارع مهرولا تحت تأثير الخوف دون أن يضع فى اعتباره إن كان عاريا أم لا، فالعمر واحد والرب واحد، والجرى نص الجدعنة.. هذه هى الثقافة السائدة الآن فى زمن تراجعت فيه مصطلحات الخجل والكسوف والعفة إلى ذيل قائمة الأخلاق.
أرجوك لا تظلم تلك الفتاة، فلقد راحت ضحية الحياء وفداء لمبدئها القائم على أن جسدها لابد أن تختفى كل قطعة منه خلف ماترتديه من ملابس، أرجوك لا تظلمها لأنها تبدو حينما تقارنها بهؤلاء السادة المنتمين لأهل الحكم والسلطة والذين هم على الناس ينصبون وبرزق الغلابة يتاجرون والذين عراهم الفساد والطمع.. تبدو واحدة من الأبطال الذين نقرأ عنهم فى الأساطير..
أعرف أن الأمر أصبح أدبيا أكثر من اللزوم وشاعريا بشكل مبالغ فيه، ولكن اعذرنى عزيزى القارئ وانظر معى إلى نواب مجلس الشعب المعارض منهم والحكومى، وإلى السادة الوزراء وإلى كبار رجال الأعمال وهم يتساقطون واحدا تلو الآخر فى قضايا فساد فاضحة وقضايا رشوة مخجلة وسرقة لأراضى الدولة وتجارة بشرف الوطن وسمعته.. ألا تجد حينما تتأمل تلك القصص وهذه الجرائم التى يرتكبها المسؤولون ثم يسيرون فى الشوراع ويظهرون فى الفضائيات والصحف كأنهم أبرياء أطهار، أن خجل تلك الفتاة يصبح أسطورة فى بلد لا يعرف فيه الخجل طريقا إلى وجوه كبار أهل السلطة الذين لا تنتفض خلايا الإحساس بالمسؤولية داخلهم وهم يشاهدون بنات فى عمر الزهور يبتلعهم النيل بسبب الإهمال وعائلات بالجملة تموت تحت سقف منازل آيلة للسقوط أو داخل مستشفيات غير مؤهلة لعلاج البشر، ألا ترى معى أن تلك الفتاة التى غلبها خجلها ووضعها على طريق الموت كشفت لنا دون أن تدرى مدى سماكة جلود السادة الكبار فى هذا الوطن؟ ألا ترى أنها تخبرنا ببساطة أن الفاسدين سيظلون كما هم لن يرحلوا ولن تأتيهم مصيبة لكى تأخذهم لأنهم لا يعرفون طريق الكسوف ولا يختشون، ولأنه- كما علمتنا فتاة الأقصر- اللى بيختشوا فقط هم اللى بيموتوا، وهؤلاء الذين يحكمون ويسرقون ويفسدون ويزيفون لا يختشون ولا من الله يخجلون أو يخشون.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة