قبل السفر لم أكن أفصل بين السياسة الأمريكية والشعب الأمريكى، انطلاقاً من أن أمريكا بلد الديمقراطية، وأن الشعب لا يمكن أن يختار سوى من يعبر عن إرادته فى كل شىء، بعد وصولى ولقاءاتى من الناس من مختلف الاتجاهات أدخلت تعديلاً جوهرياً على تلك النظرية، حيث إننى وجدت أكثر ما يشغل المواطن الأمريكى، هو الهم الداخلى من ضرائب وقوانين وفرص عمل وضمان صحى وتأمين اجتماعى وغيرها من الأمور التى تمس حياته بطريقة مباشرة أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية يفوض الأمريكيون ثلاث جهات للقيام بها، أولاً الحكومة ثم الكونجرس وأخيراً الصحافة.. بالطبع الأمريكى ليس غبيا لأن الجهات الثلاث منتخبة ولا يجرؤ أى منها التصرف من تلقاء نفسه بدون أن يقنعه ويقدم الأدلة والبراهين على سلامة موقفه.. كنت مقتنعاً بأن القاعدة الأساسية فى السياسة الأمريكية هى السرعة والتغير المستمر من النقيض إلى النقيض، فعدو الأمس هو صديق اليوم وحليف الأمس خصم الغد والأدلة على ذلك كثيرة بدءً من موقفهم تجاه شاه إيران وتحالفهم ودعمهم للجهاد فى أفغانستان، حتى السينما الأمريكية نفسها انتجت فيلما شهيرا ضمن سلسلة أفلام "رامبو" يظهر تعاطف ومساعدة الحكومة الأمريكية للمجاهدين الأفغان.
كان راسخا بداخلى أن الأمريكان هم صناع الدكتاتوريات العسكرية فى العالم ولا أعرف كيف يأتون بهذه المهارة السياسية بأن يكون الدكتاتور حليفاً وعدوً فى نفس الوقت كما حدث مع صدام حسين.. التجارب أثبتت أنهم بفضلون التعامل مع الدكتاتوريات عن النظم المنتخبة،رغم تشدقهم بالديمقراطية ودعمهم المستمر لدعاة حقوق الإنسان.. فالدكتاتور لديهم معروف محدد المعالم ينفذ ما يملى عليه حفاظا على بقائه مهما تظاهر بعكس ذلك أما الديمقراطيات فيتطلب أى قرار المرور عبر البرلمان وبحثه فى وسائل الإعلام الحرة.. غالبا الديمقراطيات لا تفى بالغرض الذى تسعى إلى تحقيقه السياسية الأمريكية وخير شاهد على ذلك موقف تركيا أثناء غزو العراق عندما رفض البرلمان السماح بمهاجمة العراق عبر الأراضى التركية.. فى إحدى السهرات بنادٍ شهير فى واشنطن يتجمع به خريجى جامعة هارفرد قدمنى دبلوماسى مصرى إلى عضو الكونجرس الأمريكى عن ولاية إنديانا سيناتور "برش" هو أكبر أعضاء الكونجرس سنا وأكثرهم اهتماما بملف الشرق الأوسط.. فى تلك الليلة اتفقنا على موعد بمكتبه.
الكونجرس عبارة عن سلسلة مبانٍ تشكل تحفة معمارية فى حد ذاتها.. فى رحابها تشم رائحة العراقة والعظمة والقوة.. هنا تشعر بأنك فى محراب العدالة وموطن الديمقراطية.. قبل دخولى إلى المبنى لفت نظرى عبارة محفورة على مدخلة تقول كلماتها "الناس جميعا أحرار ومتساون أمام القانون".. كنت جاهزًا لمقابلة السيناتور العجوز باتهامات مسبقة للسياسة الأمريكية.. أنهم منحازون لإسرائيل على حساب الحق العربى، وأنهم حكم غير نزيه فى الصراع العربى الإسرائيلى ،وهم السند الحقيقى لبقاء الدكتاتوريات التى تحكم العالم العربى من الخليج إلى المحيط.. قائمة طويلة كلها اتهامات له ولبلاده وإداراتها المختلفة.. تلقى الرجل بابتسامة كافة أسئلتى وأخذ يستعد فى الرد عليها لكنه قال كنت لا أحب التطرق لقضة الصراع مع إسرائيل.
وبما أنكم فى مصر منشغلون بهذا الأمر فنحن فى أمريكا بالفعل منحازون إلى جانب إسرائيل لأسباب منطقية وسألنى بدوره قائلا حدد لى دولة عربية واحدة لديها رئيس أو رئيس وزراء منتخب بطريقة شفافة ؟ وحدد لى دولة واحدة تجرى انتخابات نيابية أو برلمانية غير مشكوك فى نزاهتها ،ويتم فيها تداول طبيعى للسلطة؟ حدد لى دولة واحدة تطبق المعايير الديمقراطية والقانونية فى تعاملها مع شعبها؟.. يا عزيزى الشعب الفلسطينى قبل أن تقوم دولته يعيش صراعاً طاحناً على السلطة بين أطرافه المختلفة، فماذا سيحدث عندما يكون لديهم دولة؟ ما ضمانات شعب إسرائيل بألا تتحول الدولة الفلسطينية إلى عدو يدخل فى حروب بلا نهاية معها؟.
فى ظل وجود حماس وداعميها فى العالم العربى ممن لا يزالوا غير مقتنعين بأن إسرائل لها حق الوجود والعيش فى سلام لن يحدث التفاهم ولن يصل الجانبان إلى حل نهائى وسيبقى الأمر معلقا لسنوات طويلة قادمة!!.. لم تجدِ مع السيناتور أى جهود لإقناعه بأن إسرائيل الدولة الوحيدة فى العالم التى تأسست على مبدأ القتل والإرهاب وأنهم طردوا الفلسطينيين من بيوتهم واستولوا عليها بالقوة.. السيناتور لم يتجاوب مع ما أردده بأننا كعرب مجنى عليهم وليسوا جناة فى الصراع مع إسرائيل وأن العصابات الصهيونية هى التى اغتصبت أرض فلسطين وتوسعت شرقا وغربا فى الأرض العربية بالحروب والتواطؤ والخيانة..
انتقل إلى قضية الديمقراطية وتساءل هل تريد منا أن نكون حريصين على مصالحكم أكثر منكم؟ أنتم شعوب كسلانة تستحق ما هى فيه.. انظر إلى السود عندنا.. تعرضوا للظلم والعنصرية سنوات طويلة لكنهم لم يستسلموا وقدموا التضحيات عبر أجيال عديدة.. فى النهاية كان النصر حليفهم والآن يجلس فى البيت الأبيض أحدهم.. يا عزيزى المشكلة لديكم.. عندكم فى داخلكم ابحثوا عنها وستجدون العالم كله يقف خلفكم يساندكم ويتعاطف مع قضاياكم..
رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روزاليوسف
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة