تأخذك مصر بمرها وحلاوتها.. تأخذك بتفاصيلها وتسحرك بجمالها.. تجعلك شئت أم أبيت جزءاً منها.. لا تستطيع أن تتخلى عن انتمائك لها.. تأخذك إلى حيثما تريد وقتما تشاء لا إرادة لك فى مصر.. هناك أنت مسلوب الإرادة ومستسلم تماماً لما يحيط بك من ظروف.. تأخذك مصر بهمومها التى لا تنتهى.. وبغيومها التى لا تمطر.. وبآمالها التى لا تتحقق.. وتطلعات شعبها التى لا تبلغها.. تأخذك بآلاف الأحلام والأمنيات المبعثرة فى الشوارع دون أن تتحقق.. تأخذك بنيلها وبحورها وشوارعها ومدنها وقراها وتفاصيلها الكثيرة .. تأخذك بابتسامة لا تجدها فى أى بلد آخر.. وبحزن لا يمكن أن تجهله عيون.. وبلحظات لا تتكرر فى أى وقت آخر.. بلد الحزن والفرح، البكاء والضحك، الألم والأمل.. كل المتناقضات التى لا تجدها تتواءم وتلتئم وتتناسق بشكل ساحر ومجنون إلا فى مصر.. هناك ترى الحزن يبعث الابتسامة.. ومن رحم الأمل تولد الضحكة.. ومن قلب الأزمة تخلق النكتة.. ومن عنفوان الكارثة تتفجر براكين الفرح!!.
يبحث الشعب المصرى عن فرصة للفرح.. لمحة فرح تكفيه أياماً طويلة.. يعيش على ذكراها ويستمتع بصداها زمناً طويلاً.. يعرف المصريون كيف يفرحون.. يعرفون كيف يبتسمون ويعرفون كيف يتغلبون على همومهم بالصبر والفرح والابتسام.. ضربوا بهمومهم جميعها بعرض الحائط وتشبثوا بكرة القدم.. يحب المصريون كرة القدم أكثر من أى شىء آخر.. علمونا منذ القدم أن التعصب الرياضى ثنائى الاتجاه.. أهلى أم زمالك.. وحين يتعلق الأمر بالأهلى والزمالك تخلوا الشوارع وتشتعل حمى المنافسة والعصبية ولا صوت يعلو فوق صوت المباراة.
بحجم مصر وتاريخها وسنوات عمرها والحضارات التى مرت عليها وأنهر العلم والمعرفة التى تدفقت على أراضيها.. وبحجم إنجازاتها وعطاءاتها وآثارها وإسهاماتها الكبرى بتاريخ البشرية.. بحجم سيرتها وقصصها وحكاياتها وثقافتها وشعرائها.. وبحجم قصص الحب والوجد والمودة والمحبة.. بحجم جيرانها وحروبها وسياساتها وقادتها.. بحجم الجغرافيا المتحركة فيها والتاريخ المتقلب بين أراضيها والحضارات المشيدة على ضفاف نيلها والديانات المتقلبة فى سماء قدسيتها.. بحجم مصر ودورها ومكاناتها.. يكون الحب والاشتياق والعودة إلى ضفافها التى لا تنتهى أبداً.
فى مصر نقشنا ذكرياتنا على أغصان الأشجار الوارفة.. وتركنا قصصنا سيرة فى زقزقة العصافير.. وتركنا بصماتنا كشاهد إثبات وإدانة بحبها.. فى شوارعها لا زالت خطواتنا تسير، وفى مقاهيها لازالت فناجيل قهوتنا ساخنة بإنتظار أن نعود لنرتشفها من جديد.. وفى زواياها تعلمنا الحب خلسة وعلانية.
فى ظل الأزمات المتتالية.. وظروف المعيشة الصعبة والعسيرة.. يبحث المصريون عن فرصة للفرح.. يبحثون عن طوق النجاة من همومهم.. يبحثون عن أى فرجة فرح تأخذهم مما هم فيه.
تبهجك مصر بمفاجآتها.. تجرك بحنينها وذكرياتها.. تجعلك جزءاً من تفاصيلها وتصبح هى جزءاً من تفاصيلك.. تصافحك مصر بسلام.. تبعث لك بموجات الطمأنينة .. لا تقلق وأنت فى مصر.. لا تبحث عن السعادة فى مكان آخر.. إنها تحيط بك من كل صوب.. وستجدها فى كل لحظة.. فى مسافات متساوية على بعد أمتار قد يختلف مفهوم السعادة بين البشر.. من يسير بالشارع بسيارته الفارهة وحساباته البنكية المتضخمة ومن يجلس وينام فى الشارع بهمومه وفقره وحاجته!!.
لا تبحث عن لحظة سعادة فى مصر.. لا تبحث عن أصدقاء.. لا تبحث عن متعة عابرة.. كل شىء متاح.. فذاك شعب يمد يد الود والصداقة دون مقابل.
التاريخ فى مصر يقودك عبر طرق وممرات ودهاليز تمتد لآلاف سنين.. وآلاف الأسرار وآلاف المفاجآت وآلاف التفاصيل الدقيقة من الإبداع والإنجاز والحضارة والعلم والمعرفة.. مصر ليست متسولاً يزعجك بإلحاحه عند إشارات المرور.. وليست حالة مأساوية تشبه ما نراه فى الأفلام.. وليست بائعاً مستغلاً يبحث عن حفنة من الجنيهات إضافية يلتقطها منك.. مصر ليست تلك الشوارع المزدحمة والمكتظة التى تنغص عليك يومك.. ولا هى سائق تاكسى ممل لا يكف عن الرغى والتدخين.. ولا محتال تتلاقط عينه بحثاً عن صيد ثمين.. ولا أصوات أبواق السيارات التى تفقدك لذة الهدوء.. ولا تلوث الهواء بالعوادم وغيرها التى تضيق لها أنفاسك.. تلك هى القشور التى نراها فى مصر.. لكن مصر التى فى قلوبنا هى أعمق من كل ما مضى ومن كل ما سبق ذكره .. مصر هى الحضن الدافئ والابتسامة البريئة والضحكة الممتعة والنظرة الحالمة والأكف التى لا تكف عن الدعاء والألسنة التى لا تكف عن الذكر والبشر التى لا تنضب من الطيب.. مصر الحلاوة والشقاوة والدلع والولع والحب من أول نظرة.. مصر الذكريات والأمنيات والأحلام.. مصر التى إن غصت فى أعماقها اكتشفت جمالها وروعتها ونعومتها بالرغم من خشونة الحياة التى تغلفها.. غنوا لها بكل اللغات.. هناك لا تفقد الذكريات عذوبتها.
لا تتغير مصر حين تنقطع عنها وتعود إليها.. كل شىء ثابت فى مكانه، أهلها هم أهلها بكل لطافتهم وهمومهم وشكواهم وقلقهم وجدالهم وخفة دمهم.. أرضها هى أرضها بنيلها وأهرامها ومبانيها وشوارعها وزحامها وضجيجها.. كل شىء فى مصر ثابت.. الوجوه فقط تتغير.. السماء فى مصر تقطر زعماء ومبدعين ومعارضين.. فى مصر سبعين مليون مواطن وسبعين مليون زعيم.. فى القهوة أو فى الشارع أو فى أى مكان كل الناس يتكلمون فى كل شىء فى السياسة والقانون والفنون والرياضة والكيميا.. تتلبسهم روح أحمد زويل ونجيب محفوظ والريحانى وعبد الناصر.. إنها مصر أم الدنيا.
فى مصر يخلق رغيف الخبز أزمة للحكومة.. وتتحول المدافن إلى مساكن.. وتمتلىء المقاهى بالعاطلين.. ولا تجد الحكومة حل لإرضاء الشعب الذى يواجه أزماته بالنكتة.. وطالما لعبت النكتة دوراً كبيراً فى الحياة السياسية فى مصر.. إنه شعب يسخر من كل شىء.. حتى من نفسه.. شعب بهذه البساطة لا يلام من يحبه.
فى مصر ممكن أن يحدث أى شىء.. ومن الممكن أن تتخيل أى شىء.. لا حدود لأحلامك وخيالك.. هناك وسيلة ما لتحقق حلمك.. من كثرة الأساطير والروايات التى يرددها الشعب أصبح كل شىء ممكن.. الواقع هو الأسطورة الكبرى التى يعيشها الشعب المصرى.. فعندما يجد من كان معدماً قبل سنوات قليلة أصبح يملك الملايين.. فكل شىء بعد ذلك من الممكن أن يكون!!
فى مصر يطلقون على الخليجيين عرب، وعلى الأجانب خواجات.. وعلى الدنيا السلام.. بضيقها وضجيجها وحلوها ومرها.. أحب مصر.
مصر ليست سبعة آلاف عام من الحضارة.. وليست قامة شامخة من الإنجازات العظيمة.. وليست امتداداً فارعاً من الإبداع والتميز.. وليست أسماء بارزة فى سماء الفن والأدب والعلوم والثقافة.. وليست جغرافيا أو تاريخاً أو بشراً.. إنها لكيان يضم ما سبق ذكره وأشياء أخرى أكثر بكثير.. وأهم مما قيل.
يعتقد قدماء المصريين بأن للنيل مفتاح يكشف أسراره وكنوزه.. مصر كذلك لها مفاتيح تكشف جمالها وروعتها التى تكسوها الأزمات وتغطيها مشاكل الحياة الطاحنة.
حين تكون فى مصر لا تشعر بالملل.. ترى الحياة تتسرب إلى جسدك.. تبهجك نكتة أطلقها أحدهم، وتشغلك عركة فى الشارع.. وتلهيك أصوات مجهولة المصدر تشغل الجو حولك.. حين تكون فى مصر لا تفكر بالمنطق.. ولا تبحث عن المعقول.. ولا تسأل عن الممكن.. كل شىء ممكن فى مصر.. المهم تفتح مخك!!.
حين تكون فى مصر ضع أعصابك فى ثلاجة.. لأنك لو كنت سريع الاشتعال والغضب.. لن تنتهى إلا فى القصر العينى.. ويجب أن تكون لك سعة بال تسع آلاف البشر.. ولا تنزلق فى دوامة الغضب والتأفف لأبسط الأسباب.
ممتعة مصر بكل ما فيها.. بصخبها وضجيجها وحالها وأحوالها.. قد تغضب منها لكنك أبداً لا تستطيع أن تنقطع عنها.
لمصر فى قلوبنا مساحة كبيرة من الحب والمودة.. تشرق شمس الحب فى مصر.. وتشرق الذكريات والحنين والأيام الممتعة.. حين تذكر مصر.. تذكر قامات كبيرة من المبدعين والمثقفين والمفكرين.. وتذكر إنجازات هائلة عجز العلم عن أن يفكك طلاسمها.. وتذكر حضارات متعاقبة أثرت هذه الأرض ونوعت من ركائز روعتها.. حين تذكر مصر تذكر أن التاريخ جغرافيا متحركة وأن الجغرافيا تاريخ ثابت كما قال المفكر المصرى جمال حمدان.
ساهمت مصر بطرق ووسائل عديدة فى إثراء الفكر العربى والثقافة والآداب والفنون.. وساهمت فى العلوم والعمارة والهندسة.. ومنها ظهر علماء ومفكرون وأدباء ومبدعون أبهروا العالم ولا يزالون.
إن بلداً بحجم مصر وتاريخها وحضارتها ومكانتها.. لا تتأثر بما يحاول البعض أن يجرها إليه من سوء.. لا تتعثر مصر فى الحفر الصغيرة.. ولا تخوض المعارك التى لا تليق بمكانتها.. مشكلة مصر فى السياسة.. حين تتحدث عن السياسة أفصل مصر التى تحبها عن تشوهات السياسة وتلوثاتها.. حين تقيم المواقف لا تنظر بعين واحدة.. ولا تنظر بشكل مستقيم إلى القضية مباشرة.. أبحث حولها.. أنظر إليها من خلال الدائرة الأوسع ستجد أن القضية مختلفة عن نظرتك الأولى المباشرة.. لمصر مكانة عربية مميزة، ومكانة دولية هامة.. شئنا أم أبينا مصر هى محور الارتكاز العربى.. إذا استقرت مصر استقرت الأمة.. وإذا اختل الميزان اختلت الأمة جميعها.
أزمات سياسية طاحنة تعرضت لها مصر.. ليس اليوم وهذا القرن بل منذ آلاف السنين.. وبقيت هى ذاتها لم تتأثر.. تغيرت الحياة من حولها ولم تتغير أو تتأثر.. ستبقى مصر على حالها وأزماتها وضجيجها.. وسنظل نحبها لأجل ذلك ولأشياء أخرى كثيرة.. لا يتسع المجال لذكرها.. ودمتم سالمين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة