هل تذكرون الصدمة الحضارية التى أصابت المصريين حينما جاء نابليون بحملته؟ إنها نفس الصدمة التى ستضرب عقلك وقلبك إذا عايشت تجربة انتخابية فى بلد ديمقراطى حقيقى وخاصة لو تابعتها من داخل تلك البلد وليس عن طريق شاشة التليفزيون أو تقارير الصحف أو حتى حكاوى القهاوى..من قلب الحدث سيكون الأمر مختلفا، لأنك مع كل خطوة فى هذا اليوم الانتخابى ستضطر لمقارنته بما يحدث فى مصر وستتذكر قفاك الذى ربما نال حظه من ضرب عسكرى ليمنعك من التصويت ضد الحكومة فى صندوق الانتخاب حينما تشاهد هذا المواطن الأوروبى، وهو يذهب للتصويت وكأنه ذاهب لنزهة أو لحفلة، ربما تبكى وربما ينقبض قفص صدرك على ما فيه من قلب حزين وغلبان ومصدوم مثلما انقبض صدرى، وأنا أرى المواطن الدانماركى وهو يمارس حقه الانتخابى وكأنه يعزف فى حفلة موسيقية، وأنا أشاهد لأول مرة كيف يختار الشعب رئيسه وكيف يخضع الحاكم لرغبات الناخبين وكيف تكون الكلمة الأولى فى البلد للمواطن مهما صغر سنه وحجمه وليس لأحد آخر مهما كبر سنه وكبر مقامه أيضا.
ولأننا شهدنا فى الفترة الماضية أكثر من عملية انتخابية كان التزوير والفوضى شعارها بداية من برلمان 2005 وانتخابات الرئاسة مرورا بانتخابات الحزب الوطنى القاعدية وإنتخابات اتحاد الطلاب وما حدث فيهما من بلطجة وتزوير حتى وصولنا لانتخابات نقابة الصحفيين التى شهدت معركة واتهامات بالتزوير والتلاعب هى الأخرى، بسبب كل هذا سأنقل لكم تجربة انتخابية حقيقية بنزاهتها وشفافيتها وديمقراطيتها حضرتها فى الانتخابات الماضية منذ عامين بالدنمارك، يوم كامل من الديمقراطية ينتهى باحتفالية يرقص فيها الفائز والمهزوم على موسيقى يعلمون جيدا أنها من أجل مستقبل أولادهم كما قالت مواطنة دانماركية بعد إعلان نتيجة الانتخاب وخسارة حزبها، يوم انتخابى كامل هو خلاصة التجربة الدانماركية، لأنه، كما تقول حكمتنا المصرية الشهيرة، سؤال المجرب أفضل من سؤال الطبيب.
ثقافتى المصرية عن يوم الانتخاب، جعلتنى أتخيل قبل أن أنزل للشارع أن الطرق ربما سيصيبها بعض من الزحمة، وأن رجال الشرطة الدانماركيين الذين لم أشاهد واحدا منهم فى اليوم السابق سيملئون الشوارع، وأن الإشارات المرورية التى تعمل مثل الساعة لن تكفى وحدها لصد فوضى اليوم الانتخابى وسيظهر عسكرى هنا أو عسكرى هناك لتنظيم الحركة نحو أماكن التصويت خاصة الموجودة فى المناطق كثيفة السكان، وهيأت نفسى للاستماع إلى الهتافات الدانماركية من جانب مندوب كل مرشح ضد المرشح الآخر أمام لجنة التصويت، برودة الجو فى السابعة صباحا ضاعت تماما حينما وجدت الشوارع كما تركتها بالأمس نظيفة وهادئة، والدراجات التى يستخدمها الوزير قبل الغفير فى الدانمارك للذهاب إلى العمل تسير بانتظامها المعتاد فى الحارات المخصصة لها، ربما مازال الوقت مبكرا وستبدأ المعركة بعد قليل.
فى الطريق إلى "ساسكو بنك" وهو بنك كبير يساند جبهة اليمين فى الدانمارك نظم فيما يشبه المناظرة الأخيرة قبل بداية الانتخابات كنوع من المساندة للأحزاب التى يدعمها، كانت صور المرشحين فى نفس أماكنها المحددة أعمدة مخصصة تحمل صورا عليها اسم المرشح واسم حزبه، لم نر صورة على الأرض أو لوحة ممزقة أو مساندين لمرشح منافس يتطوعون لتمزيق الدعاية الخاصة بالآخرين، كما يستمتع الحزب الوطنى بتمزيق لوحات الدعاية بالإخوان، صحيح أن بعض الصور لم تسلم من مداعبة شباب الأحزاب بإضافة شنب هنا أو نصف شنب هناك، ولكن تبقى الأمور كما هى هادئة فى الأتوبيس الذى نقلنا إلى المناظرة التى أعدها البنك وحضرها وزير الضرائب الدانماركى وهو بالمناسبة شاب لم يتخط عامه الثلاثين وحاصل فقط على الثانوية العامة ولكن نشاطه الحزبى وأكثر من دورة فى مجال المحاسبات جعله وزيرا، بالإضافة إلى شخص آخر نزل من سيارة متواضعة كان يقودها بنفسه قالوا فيما بعد أنه وزير الثقافة، واستغرب أحدهم أنه أتى فى سيارة مع انه اعتاد على ركوب الدراجة حينما يذهب للعمل ثم عاد وعذره حينما تذكر طول المسافة إلى البنك مقر المناظرة التى شاركت فيها أيضا "مالو" الفتاة الجميلة خطيبة الأمير السابقة وابنة أحد أغنياء الدانمارك وعضوة الحزب الجديد الذى يرأسه ناصر خضر.
عن الضرائب ومصلحة الناخبين وما يقدمه كل حزب انتهت تلك المناظرة بضحكات متتالية، ثم كان الطريق إلى أحد المقارات الانتخابية، اليوم الانتخابى بدأ إذن! ها هى الفوضى قد نرى بعضها فى البلد التى أذلتنى بنظامها، الأتوبيس مازال بنفس هدوئه الشوارع مازالت على نفس هيئتها هادئة ونظيفة، والدانماركيون على دراجاتهم سائرون إلى أعمالهم.
ألا يدلى الناس فى هذا البلد بأصواتهم، ألا يهتمون بالانتخابات؟ سألت مرافقتنا الدانماركية ذات الأصل المصرى، فلم تجبنى بأكثر من أن نسبة التصويت والمشاركة فى الانتخابات الماضية كانت أكثر من 85% ومتوقع لها هذه المرة أن تتخطى الـ90% كما تقول استطلاعات الرأى .. انتظر سوف ترى.
لم تظهر الشرطة بعد، لم أر سيارة من سيارات وزارة الداخلية المسئولة عن الانتخابات هنا، لم أسمع صوت سارينتها، بجوار المدرسة عرفت أن كل الدانمارك تذهب لتدلى بأصواتها، دراجات كثيرة أمام المدرسة، يدخل الناخب الدانماركى ليدلى بصوته ويخرج بعد دقيقة واحدة يركب دراجته ويذهب إلى عمله.
ألا يبحث على اسمه فى الكشوف؟ ألا يحاول أحد تعطيله؟ ألا يحاول مندوب لمرشح منافس أن يغريه سندوتش سالمون أو 20 كرونة أو وظيفة لابنه العاطل؟ لا يبدو أن أيا من هذه الأشياء تحدث الأمور تسير بسهولة المرشح يدخل ليدلى بصوته وطفله على يده، ألا توجد أى تحرشات؟.. من الواضح أن الانتخابات فى مصر تأثيرها قوى على دماغى.
العملية الدراسية تسير بشكلها المعتاد فى المدرسة، لم يحصلوا سوى على الملعب فقط لوضع الصناديق والإدلاء بالأصوات، لا يوجد مندوبين أو احد من المرشحين ولا توجد صور أحد فقط قائمة بسيطة بها كافة أسماء المرشحين للبرلمان أسماء عربية ودانماركية وتركية وباكستانية وما على الناخب سوى أن يختار إما مرشحه الشخصى أو حزبه الذى يحفظ برنامجه.
ذهبت "ماريا" صديقتنا ذات الأصل المصرى والتى تعمل بمعهد الحوار مع وفاء وفتحى الذين نظموا لنا تلك الزيارة لتدلى بصوتها، وقبل أن نحصل على الصورة الثانية كانت "ماريا" بجوارنا، وأنا أخبرها بحقدى عليها لأنها تتمكن من اختيار حاكمها، بينما نحن فى مصر نكتب "لا" فتخرج من الصناديق التى كانت شفافة أمامنا وهى تقول "نعم" بالتلاتة للرئيس مبارك ونظامه.
أخيرا وجدتها.. الصناديق هنا فى انتخابات الدانمارك ليست شفافة، صناديق خشبية عادية، ربما سيحدث تزوير ربما ستظهر الفوضى والاتهامات فى المساء.. فى مصر نحن نملك صناديق شفافة ومع ذلك يتم التزوير، الأهم أن تكون الذمم والضمائر هى النزيهة والشفافة وليست الصناديق لأن الصناديق لا تزور من تلقاء نفسها.. الساعة أصبحت واحدة ظهرا ولم يظهر شرطى واحد.. هو النهاردة أجازتهم ولا إيه؟! .. إذا أردت أن تعرف الطعم الحقيقى للديمقراطية انتظرنى غدا لنستكمل معا باقى الرحلة ..
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة