أفريقيا تبكى.
ولكن الدرس من البكاء والخسارة أهم كثيرا من النصر.
ومع إيماننا بأهمية الدروس والتعلم نبقى دائما من البشر. نفرح ونهلل ونحتفل بالنصر.. ونحزن ونبكى ونتألم من الغدر.
يا إلهى!! كم أنتِ غادرة يا كرة القدم.
يا إلهى!! كم أنت مهم ومؤثر يا أيها التواضع.
يا إلهى!! كم أضاع الغرور شعوبا وفرقا ومعارك.
يا إلهى!! كم كان ثمن التسرع فادحا وأحيانا كارثيا.
يا إلهى!! كم أصبح الإعداد النفسى جانبا حاسما فى الرياضة.
يا إلهى!! عبر أكثر من خمسين عاما مع كرة القدم.
تابعت أكثر من مائة ألف مباراة محليا وعربيا وقاريا وعالميا.
مباريات للأشبال والشباب والكبار والنساء والمخضرمين.
شاهدت خلالها كل أنواع المفاجآت والغرائب والطرائف.
ولكننى لم أشاهد موقفا عجيبا غريبا مثلما حدث فى الدقيقة الأولى من الوقت المحتسب بدل الضائع فى الشوط الرابع من مباراة أوروجواى وغانا مساء الجمعة الماضى فى ربع نهائى كأس العالم 2010 فى جنوب أفريقيا.
الفريقان متعادلان 1-1 رغم التفوق الفنى والميدانى والبدنى لغانا.. ورغم الفرص المتتالية الضائعة من مهاجمى غانا فى حلق المرمى، ورغم أن غانا هى التى بادرت بالتسجيل لسولى مونتارى، وأوروجواى هى التى تعادلت لدييجو فورلان.. وهنا وفى فى الدقيقة الأولى من الوقت المحتسب بدل الضائع فى الشوط الرابع كانت ركلة الجزاء الصحيحة مائة بالمائة لغانا.. ياللهول ركلة جزاء فى الدقيقة 120 من المباراة والفريقان متعادلان، والفائز يصعد إلى نصف نهائى المونديال متفوقا على فرنسا وإيطاليا وإنجلترا والبرتغال والبرازيل.. وهى الركلة الأولى والأخيرة طبعا التى تحتسب لأى فريق فى ذلك الوقت المتأخر لأى مباراة فى تاريخ المونديال.
وبطاقة حمراء مستحقة أيضا للأوروجوانى الفذ لويس سواريز بعد أن منع الكرة بيده من دخول المرمى، ومن على خط المرمى.. وهو منعها قبل ثانية واحدة فقط وخلال نفس الهجمة من دخول المرمى بقدمه أيضا ليصبح أول لاعب فى تاريخ كأس العالم يبعد الكرة من على خط مرماه مرتين فى أقل من ثانية.
والأعجب جدا أنه مهاجم وأنه صاحب هدفى الفوز لأوروجواى فى مرمى منتخب كوريا الجنوبية فى ثمن النهائى.
أى أنه صعد بفريقه إلى ربع النهائى بإحراز هدفين.
وصعد بفريقه إلى نصف النهائى بإنقاذ هدفين.
حدثان جديدان فى البطولة العالمية الكبرى.
آخر ركلة جزاء فى تاريخ كأس العالم فى 80 عاما.
وآخر بطاقة حمراء لأى لاعب فى المونديال أيضا فى 80 عاما.
ولكن الإثارة لم تنته حتى الآن.. الأكثر والأكبر لم يأت بعد!!
الأورجوانيون تقبلوا القرارين الثقيلين بترحاب كبير.
وهم يعرفون أن سواريز المطرود منحهم قبلة الحياة.
الغرائب استمرت وانفجرت إلى الذروة.
الغانيون عاشوا أفراح التأهل إلى نصف النهائى قبل تسديد الركلة وكأنهم سجلوا هدفا أو أن احتساب الركلة كفيل بالتأهل قبل التسديد.. ولأنهم تعجلوا التسديد والتسجيل والتأهل.. وهم يعلمون جيدا أن الحكم سينهى اللقاء فور تسديد الركلة.
كل لاعبى غانا وجمهورهم وجهازهم الفنى عاشوا نشوة الفرحة والتأهل وكتابة تاريخ جديد لهم ولقارة أفريقيا قبل الأوان.
لاعبو غانا وبينهم أساموا جيان طاروا فى السماء بأجنحة الفرحة الزائفة أو المتعجلة.. ولم تعد أقدامهم ملامسة للأرض. وسط تلك الأجواء الصعبة أو الملبدة بالغيوم تقدم أساموا جيان لتسديد الركلة.. وهو الذى أحرز بامتياز هدفين من ركلتين فى نفس النهائيات وأضاف إليهما هدفا ثالثا أمام المنتخب الأمريكى فى الوقت الأضافى.. بل هو الذى أحرز سبعة أهداف لغانا من أصل 11 هدفا.. وهو الأمر الذى منح ثقة عملاقة للفريق الغانى وجمهوره ولأساموا نفسه قبل التسديد.
الصدمة الكبرى حدثت من الغانى الذى تقدم نحو ركلة الجزاء وقدماه متعلقتان فى الهواء.
أساموا جيان أمسك الكرة بكل ثقة وتقدم نحو نقطة الجزاء لتنفيذ الركلة.. ودون أدنى تردد أو إعداد نفسى أو تفكير سارع لتسديد الكرة.. ولا أدرى سببا واحدا للتسرع العجيب وغير المبرر من جيان للتسديد.. وهى اللعبة الأخيرة فى المباراة.. ويمكنه الحصول على كل الزمن المطلوب لتهدئة أعصابه ورفع الضغوط قبل التسديد.. ولكنه تسرع وتقدم وسدد كرة عالية فى العارضة وإلى خارج الملعب ومعها انطلقت صفارة النهاية من الحكم البرتغالى الكفء أوليجاريو بينكورينكا والاحتكام إلى ركلات الترجيح.
وفى ركلات الترجيح نفذ الأوروجوانى فورلان الركلة الأولى وسجل هدفا.. وتقدم المحبط جيان بكل شجاعة نحو الركلة الأولى لغانا ونفذها بامتياز.. سددها بامتياز ونجاح لأنه عاد بقدميه إلى الأرض.. أدرك أن الفوز لم يتحقق.. بل إن فريقه مهدد أساسا بالخروج.. وضاعت نشوة الانتصار وحلاوة التأهل الزائفة ومعها الشعور الفاسد أنه سبب فرحة بلاده وشعبه وفريقه وجمهوره وكل القارة الأفريقية. وفى بقية الركلات أخفق لاعب من أوروجواى مقابل النجمين الغانيين جون منساه ودومينيك أديياه.. وخسرت غانا 4-2 وفقدت فرصة العمر فى التأهل كأول فريق أفريقى إلى نصف نهائى المونديال.
ياله من درس قاس.. قاس جدا.. هو الأقسى فى تاريخ كرة القدم.