"إنهم كعادتهم، كلما تجمعوا فى الصف الطويل، أمام مكتب المنح، لا يتحدثون إلا عن شهدائهم، والحق إنه ليست هناك، غير هذه الفرصة، لتذكرهم، والترحم على أرواحهم، والتغنى بمفاخرهم.. فهم ككل ماض يسيرون إلى الخلف، ونحن ككل حاضر، نسير إلى الأمام.. لعل هذا اليأس المطبق من التقاء الزمنين، ما يجعلنا لا نهتم إِلا بأنفسنا، أنانيين نرضى أن يتحول شهداؤنا الأعزاء إِلى مجرد بطاقات فى جيوبنا، نستظهرها أمام مكتب المنح، مرة كل ثلاثة أشهر.. ثم نطويها مع دريهمات فى انتظار المنحة القادمة".
نقلت هذه الفقرة من روايته "اللاز" الشهيرة والمهمة: هو الروائى الجزائرى الكبير الطاهر بن جلون، الذى كان قد أهدانى هذه الرواية سنة 78 عندما أعادت دار بن رشد إصدارها (نفس الدار التى نشرت روايتى الأولى إنهم يأتون من الخلف) بعد أن كانت قد صدرت سنة 74، كنا فى بيروت حيث أهديته روايتى وأهدانى روايته "اللاز" وهو اسم الشخصية الرئيسية للرواية على الأقل فى الجزء الأول من الرواية حيث تابعته الرواية من طفولته الشقية فهو لقيط لا يذكر شيئا عن أمه أو أبيه فعاش حياته وهو يحمل بداخله شرا هائلا فيضرب هذا ويخطف نقود هذا ويهدد الجميع ويجبر أحدهم على أن يسرق له النقود من متجر أبيه كما أنه يشهر خنجره دائما لإرهاب الجميع ليخضعوا له، ثم يعرف اللاز أباه صدفة بأنه أبوه، وأنه ليس لقيطا، فقد جملت به أمه "مريام" بعد أن شتت العسكر الفرنسى أهل القرية التى كانوا يعيشون فيها، فالتقى أبوه مع ابنة عمه فى الغابة (أم اللاز) وعاشا معا شهرا كان هو نتيجة هذا اللقاء أما الأب فقد ألقى القبض عليه وأرسل إلى الخدمة الإجبارية فى الجيش الفرنسى.
أول أمس مات "الطاهر وطار" وهو الذى عاش خمس وسبعين سنة حيث ولد فى بيئة ريفية وأسرة بربرية تنتمى إلى عرش "الحراكتة" الذى يتمركز فى إقليم يمتد من "باتنة" غرب الجزائر إلى "خنشلة" جنوبا إلى ما وراء "سدراتة" شمالا حيث تتوسطه مدينة "الحراكتة" عين البيضاء (كما يقول الطاهر وطار عن نفسه)، فقد ولد الطاهر وطار بعد أن فقدت أمه ثلاثة بطون قبله، فكان الابن المدلل للأسرة الكبيرة التى يشرف عليها الجد المتزوج بأربع نساء أنجبت كل واحدة منهن عدة رجال لهم نساء وأولاد أيضا.
عمل "الطاهر" بحزب جبهة التحرير الوطنى عضوا فى اللجنة الوطنية للإعلام من 1963 إلى 1984 ثم مراقبا وطنيا حتى أحيل على المعاش وهو فى سن 47 وشغل منصب مدير عام للإذاعة الجزائرية وكان قد عمل فى الحياة السرية معارضا لانقلاب 1965 حتى أواخر الثمانينات، اتخذ موقفا رافضا لإلغاء انتخابات 1992 ولإرسال آلاف الشباب إلى المحتشدات فى الصحراء دون محاكمة، ولقى العنت الكثير من المسئولين نتيجة لموقفه حيث همش بسبب هذا الموقف لكنه كرس حياته للعمل الثقافى التطوعى فقد كان يرأس ويرعى "الجمعية الثقافية الجاحظية" منذ سنة 89 وقبلها كان قد حول بيته إلى منتدى يلتقى فيه المثقفون كل شهر، بعد روايته: "اللاز" كتب "الزلزال" و"الحوت والقصر" و"قصيدة فى التدين" و"عرس بفل" و"المجموعة القصصية "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" و"دخان فى قلبى" و"الطعنات"، مات الروائى الجزائرى الذى كان كل همه التعبير فى الرواية والأدب عن ملامح التغيير فى مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والتاريخية يمكن أن تقوم بها الطبقة المتوسطة فى الجزائر، وكان متمسكاً بالتراث المشرقى وكان حاضراً فى المشهد الثقافى السياسى بكل قوة وفعالية، ولن ما نقوله فى هذه اللحظات إلا ما قاله "الطاهر وطار" على لسان أحد شخصياته الروائية:
- "إيه إيه.. الله يرحمك يا السبع .. كنت وحدك عشرة رجال، إننا، كما عرفنا أنفسنا، مند خلقنا، والشيلان على رؤوسنا تكاد تقطر وسخًا، والبرانس مهلهلة، رثة، متداعية، والأحذية مجرد قطع من الجلد أوالمطاط، تشدها أسلاك صدئة، والأوجه زرقاء جافة.. ليس لنا من الماضى إِلا المآسى.. وليس لنا من لحاضر إِلا الانتظار.. وليس لنا من المستقبل إِلا الموت.. نتآكل كالجراثيم، وليس غير".
وداعا لروائى كبير عاش ومات مهموما بشعبه وأمته.
* كاتب وروائى مصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة