غير صحيح أن الإسلام يعادى الدولة المدنية, فالرسول هو الذى أرسى أفكار المواطنة، وعقد التحالفات مع غير المسلمين واحترم مشورة كبار قادته العسكريين رغم قدرته على أن يطلب العون من السماء ليحسم كل خلاف على الأرض
بمناسبة مسلسل «الجماعة» الذى كتبه السيناريست الكبير وحيد حامد.. أستأذنك أن أطرح عليك وجهة نظرى فى مسألة الدولة المدنية والدولة الدينية، فالبعض منا يرى بعنف أن الدين الإسلامى لا علاقة له بالدولة المدنية إلى الحد الذى يصورون فيه كل من يطالبون بإعلاء كلمة الله وتطبيق الشريعة الإسلامية بأنهم دعاة ديكتاتورية واستبداد، على غير الحقيقة، دون أن ينظروا بحكمة إلى النموذج التركى الذى يعلو فيه الإسلاميون سدة الحكم بلا استبداد أو رجعية أو تخلف، والبعض على الجانب الآخر يتوهم أن كل من يناضلون من أجل الدولة المدنية ما هم إلا علمانيون خارجون على الدين، يريدون أن ينتهكوا حرمات الله تعالى وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنه لا استقرار للدين دون أن يخرج هؤلاء العلمانيون خارج حلبة المنافسة السياسية، وتصفو الأمة لأبنائها من الملتزمين بالكتاب والسنة دون غيرهما من تعاليم السياسة على الأرض.
الإخوان المسلمون والتيار السلفى المعتدل والسلفى الجهادى جميعهم متهمون بهذه الاتهامات على غير الحقيقة، والتيار المدنى متهم بالعلمانية الملحدة والخروج على الدين على غير الحقيقة أيضا فى تقديرى، فى حين أن الإسلام برحابة تشريعه، وبتعاليمه الإلهية المقدسة، يجمع فى سياق واحد بين الدين والدنيا، وبين النص والعقل، وبين ما شرعه الله من حدود، وما أبدعه البشر من قوانين تنظم أمور دنياهم دون الخروج عن صحيح الدين.
أخشى هنا أن هذا الصدام غير العقلانى بين دعاة الإسلام ودعاة المدنية يمكن أن يقودنا إلى هاوية تطيح بنا جميعا بلا معنى، فى حين أن الدين الحنيف وسنة النبى صلى الله عليه وسلم يحتملان قطعا أن يستوعبا كل الأفكار وكل الآراء دون الخروج عما رسمه الله لنا من قوانين وتشريعات وحدود نزل بها الوحى على الرسول الكريم، أو أرساها صحابته الكرام وأجمع عليها علماء الأمة الذين لا يجتمعون أبدا على ضلالة، رضوان الله عليهم جميعا.
الدولة الإسلامية فى يقينى واعتقادى لا تتقاطع أبدا مع الأفكار المدنية، أو مع تطورات العصر، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يبدعون من النظم واللوائح ما يناسب الأقطار الإسلامية المختلفة دون خروج عن شرع الله تعالى، ودون اعتداء على حدوده أو حرماته التى أقرها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. الصحابة لم يقفوا أبداً على خط العداء مع ما استقر عليه العقل الإنسانى من تطور سياسى واقتصادى واجتماعى، والسلف الصالح من بعدهم لم يجافِ أبدا حقائق العصور التى عاشوا فيها وتربوا وفق عاداتها، ومن ثم فإن تصور وجود عداء أو خصومة بين فكرة الدولة المدنية وفكرة الدولة الإسلامية هو تصور أهوج، لا جذر له، ولا ساق، ولا أوراق تظلل من يتبع هذه الفكرة.
من قال لك يا أخى إن الدولة الإسلامية تقف على طرف نقيض مع المدنية وتطورات العلم والعقل عبر العصور، انظر أنت إلى الإستراتيجية التى اعتمد عليها النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى تأسيس دولته البكر فى يثرب، انظر وتأمل لتعرف أن محمدا النبى صلوات الله عليه كان رمزا للمدنية والحداثة، وكان رسولا للعقل والتنوير، وكان قائدا سياسيا يعرف الحدود التى يقف عندها الوحى ليعمل عندها العقل، ويعرف هو وصحابته الكرام من بعده الأسوار التى لا يجوز للعقل أن يتجاوزها احتراما للوحى وتقديسا لكلمة الله العليا.
ما فعله النبى محمد صلوات الله عليه فى المدينة المنورة هو إعجاز مدنى وسياسى فى بيئة كانت قد خاصمت العقل، ووهبت نفسها للبداوة والجهل، ولا يعقل أن نضل نحن الطريق بعد ذلك ونتصور أن إسلامنا الحنيف وسنة نبينا الكريم يمكن أن يقودانا إلى الطريق الخطأ، أو تضيع من أمتنا فرصة اللحاق بالمدنية الحديثة وفق ما يقتضيه العصر.
قلت لك قبل قليل.. انظر إلى التجربة التركية كيف صاغت ملامح مشرقة، حتى إن اختلفنا على بعض التفاصيل، وأقول لك مرة أخرى انظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كيف أبدعوا دولة من بحر العدم فى الصحراء، وكيف نظموا أنفسهم ونظموا الدنيا من حولهم، واحترموا العلم والفكر والعقل فى كل سلوكهم وحياتهم لسنوات ممتدة مكنتهم من الأرض وما عليها، حتى ضيعنا نحن هذا المجد بجهلنا وخلافاتنا المهينة. رسول الله كان يفهم فى قواعد العصر وأفكاره وسياساته، وإلا لماذا أرسل الجيل الأول من المسلمين إلى الحبشة ليكونوا فى حماية حاكم مسيحى لدولة مسيحية، ورسول الله هو الذى رسم وحده خطة الخروج من مكة إلى المدينة، وعقد التحالفات مع أهل يثرب سرا قبل أن ينقل تحالفه معهم إلى العلن، ولم ينتظر البراق ليحمله شمالا حيث يثرب، ولم ينتظر جبريل عليه السلام ليقوده فى الصحراء، كانت الهجرة توجيها إلهيا، لكن التخطيط والتنفيذ كان فعلا بشريا خالصا قام به النبى محمد فى براعة وفدائية وفهم فى الجغرافيا والتاريخ والسياسة والأعراف التى سادت الجزيرة العربية فى هذا التوقيت العصيب.
والنبى محمد صلوات الله عليه هو الذى خطط لمشروع (المواطنة) فى يثرب، بمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وبتحالفاته المتعددة مع اليهود داخل المدينة، وهو الذى قرر ملاقاة جيش قريش فى بدر بعيدا عن حدود دولته الوليدة ليحمى النساء والأطفال، ويحمى المكسب السياسى الذى أشعل قلوب مشركى مكة بالغضب والحسرة، وهو الذى أقر علناً أمام صحابته أنه لا علاقة للوحى بهذه الحرب، حين أمر بأن يخيّم جيشه قبل بئر بدر، وحين سأله بعض صحابته إن كان هذا القرار من الوحى أم أنها الحرب والمشورة، فقال صلوات الله عليه إنها الحرب والمشورة ونزل عند نصيحة صحابته الخبراء فى الحرب، وعسكر بعد بئر بدر ليحرم جيش المشركين من ورود المياه، فأى فهم هذا وأى مدنية وأى تخطيط وأى احترام للخبرات والأفكار من أهل العلم وأهل الحرب وأهل المشورة.
والحبيب محمد صلى الله عليه وسلم هو الذى قرر حفر الخندق حول المدينة ليحمى دولته خوفا من بطش جيوش (الأحزاب)، بعد نصيحة أخرى من سلمان الفارسى الذى أشار على النبى صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق وفق العادات العسكرية فى بلاد فارس فى ذلك الوقت، فاحترم الرسول هذه المشورة العسكرية واحترم الخبرة فى إدارة هذا الصراع، وكان يشارك صحابته الكرام فى حفر الخندق رغم أنه صاحب الوحى والرسالة، والذى كان قد جاءه ملك الجبال يطلب منه أن يُطْبِق الأخشبين على أهل الطائف بعد أن آذوه صلوات الله عليه، لكن النبى الكريم رفض ذلك أملا فى أن يخرج من الطائف من يقول إنه لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله. كان باستطاعة النبى حين أشار عليه سلمان الفارسى بالخندق أن ينتظر الملائكة والمدد السماوى الذى كان جاهزا فى كل وقت لنصرته صلوات الله عليه، ولكنه آثر أن يسن لنا هذه السنة من الاعتماد على أهل الخبرة والحكمة والإدارة والحروب فى خطوات التأسيس السياسى لدولة المدينة، فأى عبقرية مدنية تلك التى أدار بها النبى محمد صلى الله عليه وسلم هذا الملف، وأى درس نتعلمه نحن بأنه لا خصام أو عداوة بين شريعة الله وتاريخ هذا الدين، وبين المدنية والحداثة والرقى، طالما التزمت هذه المدنية بحدود الله وتعاليمه، ولم تعتد على الحرمات التى شرعها هذا الدين.
رسول الله هو الذى وقّع أيضا صلح الحديبية الذى نص على أن كل من يسلم من أهل قريش يجب أن يبقى فى قريش ولا يقبله النبى إن هاجر إلى المدينة المنورة، وأن كل من يكفر من أهل المدينة يجب أن يسمح له النبى بالعودة إلى قريش بلا أذى، وهو اتفاق يعبر عن مدى فهمه للطبيعة السياسية لهذه الاتفاقيات، وتقدير قوة دولته الإسلامية، ورغبته فى أن يحقق انتصارا سياسيا ودعويا بلا حروب وإراقة دماء. ورسول الله صلوات الله عليه هو الذى قال لأهل يثرب أنتم أعلم بأمور دنياكم، ولم يقحم الدين فى الزراعة والتجارة واقتصاديات الدولة وفنون الحكم والإدارة والحرب، وهو الذى اعتمد العقل والعمل فى إنشاء دولته الحديثة، ولم يخرج صحابته عن نهجه العقلانى العلمى فى الإدارة، فكان الإسلام أصلا واحدا، وكانت اجتهادات الصحابة بالغة التنوع فى أشكال الخلافة، وفى طبيعة الأعداء والأصدقاء، وفى صور الإدارة المالية والسياسية بين أقطار الأمة الإسلامية.
من يمكنه أن يزعم إذن أن هذا الدين ضد المدنية وضد العصر وضد العلم، ومن يمكنه الادعاء بأن أصحاب هذه الدعوة إلى الدولة الإسلامية هم دعاة انغلاق أو قسوة أو بداوة وتخلف، نحن نحتاج فقط إلى أن يسمع كل منا الآخر لنجد الطريق مشرقا بين ديننا وبين عصرنا، وبين شريعة الله وأشكال الحكم على الأرض، تعالوا نتعلم من النبى محمد صلى الله عليه وسلم بروح تُرغِّب فى الإسلام الحقيقى الذى علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة