الأسبوع الماضى هاتفنى من لم أعرفه، فلم يقل أكثر من كونه من مواطنى الغردقة وسألنى سؤالا مباشرا: أستاذ منتصر الزيات انت بطلت ليه تكتب فى فساد البحر الأحمر، أجبته فى اقتضاب: هو المطلوب أكتب على طول!!
فيه موضوعات أخرى كثيرة ملحة، بعدين أنا كتبت خمس مقالات وقتها بكل المعلومات التى وصلتنى، وهناك نائب بمجلس الشعب كان قد تقدم باستجواب أو طلب إحاطة مستندا لمقالاتى تلك، غير أنهم أسقطوه بنهاية الدورة البرلمانية على ما أعتقد, بادرنى المتحدث المجهول: أقولك بصراحة، يتردد أن المحافظ «ظبطك»!! تمالكت أعصابى وقلت أولا المحافظ الحالى المهندس مجدى قبيصى غير متورط فيما نشرت، والأهم أن البينة على من ادعى، لو لديك أى مستند يفيد تملكى شبر أرض فى الغردقة وضواحيها أو شقة هاته. الحقيقة استغربت أن يكون الكاتب متهما فى حين المتهم الحقيقى ينعم بالأمن، والذين تربحوا من المال العام طلقاء.
ومنذ يومين فى بداية شهر رمضان المبارك زارنى اللواء ممدوح بسيونى مدير الإسكان السابق بالغردقة، وهو أبرز من دخلوا فى صدامات مع المحافظ الأسبق سعد أبوريدة، زارنى معايدا ومباركا بالشهر الفضيل، وسألنى الرجل، وهو صديق عزيز، نفس السؤال: لم سكتّ عن الفساد فى البحر الأحمر؟ قلت له انت كمان يا سيادة اللواء.. وقصصت عليه مكالمة الشاب إياه، ابتسم الرجل وقال طبعا أنا لم أذهب لهذه الدرجة من سوء الظن، لكن شعرت أن عقبات وقفت فى طريقك منعت استرسالك. هربت من مجادلة لن تقدم أو تؤخر وقلت لصاحبى: هل لديك جديد يمكن أن نضيفه؟ أجاب نعم وهى لمسة إنسانية بالغة الأهمية وسألنى هل تذكر الـ 18 مهندسا ومقاولا من قوة إسكان البحر الأحمر ومقاولى مشروعات الإسكان الذين تم حبسهم وتشريدهم فى عهد سعد أبوريدة محافظ البحر الأحمر الأسبق؟ طبعا مش فاكر، هكذا تمتمت بصوت ضعيف، وكأن الرجل كان يتوقع الإجابة، فمضى من فوره مسترسلا «دى قصة قديمة بدأت فى عهده اللا ميمون -يقصد أبوريدة- لما قعد يغنى غنوة محاربة الفساد طبعا فى وجه كل الذين لاينفذون تعليماته, المحافظ الهمام أحضر مجموعة من دكاترة مركز البحوث، ومنح كالعادة كل واحد منهم قطعة أرض، وكتبوا تقريرا مفصلا يتهمون فيه الـ18 مهندسا ومقاولا بالتلاعب فى كميات الاعمال المنفذة لصالح المقاولين ولخدمة المهندسين، وبناء على هذه المذكرة التى قدمت للمحافظ أبوريدة، تم تقديمهم الى النيابة العامة التى أمرت بحبسهم، وبقى المساكين فى الحبس الاحتياطى لمدة سنتين فى سجن قنا، ثم أحيلوا للمحاكمة وتدولت القضية عشر سنوات أمام محكمة جنايات أمن دولة قنا حتى صدر الحكم أخيرا ببراءة جميع المتهمين من الاتهامات التى وجهت إليهم!!» سكت اللواء ممدوح بسيونى وصوته يتهدح ويتحشرج، والتقف كوب ماء أمامه يرتشف قليلا منه ودمعت عيناه.. استطرد يتحدث بصوت مؤثر ومتأثر «لم يجدوا أحدا فى القاعة يهتف معهم يحيا العدل، بل حتى هم لم يهتفوها!!» لم تنشر صحيفة من الصحف التى أكلت لحم هؤلاء المتهمين زورا وبهتانا خبرا ينصفهم بذات طريقة الاتهامات، استمر ممدوح بسيونى وقد استأذنته فى تسجيل ما يقول «حد شعر بمعاناة المهندسين والمقاولين الـ18 طوال 12 سنة، وسيف الاتهام مُصلت على رقابهم؟ هل شعر أحد بأسر هؤلاء وذويهم وزوجاتهم وأبنائهم؟ لم يشعر أحد على الإطلاق بمن حاول الانتحار من أبنائهم، بمن هرب وترك أسرته، بزوجة خرجت تبحث عن عمل لتطعم أطفالها وأسرتها؟ حرموا من حقهم فى البحث عن مستندات تدعم موقفهم، الكل تبرأ منهم أو تنكر لهم فى ظل حملة قاسية شنها ضدهم سعد أبوريدة ومعاونوه.
لولا أن الله أظلهم بظله، وجاء قاض محترم نظر فى أوراق القضية على كثرتها واختلافاتها واستجاب لمطلب المتهمين المتكرر بندب مكتب خبراء وزارة العدل، بعيدا عن دكاترة معهد البحوث إياهم، وورد تقرير خبراء وزارة العدل ليكشف تلاعب تقرير الدكاترة، مما أوقع المحكمة فى مشكلة الحكم، وتولى نظر القضية دائرة أخرى، فالقضية استمرت عشر سنوات تناوب على نظرها عدة قضاة، جاء القاضى الأخير ليحل الإشكال، ويندب جهة محايدة ورشح جامعة القاهرة التى قدمت تقريرا فنيا على مستوى عال من العدل والإنصاف والتقنية الفنية، ولولا أن بين المتهمين مقاولين استطاعوا تدبير نفقة أمانة الخبرة لجامعة القاهرة التى وصلت إلى 254000 جنيه لبقى المساكين فى السجن بقية عمرهم!! ارتكز الحكم على هذا التقرير وقضى ببراءة جميع المتهمين بعد عشر سنوات فى ظل قضية ظالمة، هى دعوة للمشرع المصرى لإعادة صوغ ما يتعلق بالحبس الاحتياطى وشروطه، ونطاق تطبيقه حتى لا تُخرج لنا السجون أجيالا مشوهة حاقدة ناقمة، تتحول لتصبح قنابل موقوتة فى المجتمع.
قلت لصديقى اللواء ممدوح بسيونى وأين هذا التقرير وذلك الحكم، فوعد بإحضار هذه الاوراق الحاسمة على أمل مد القراء والرأى العام بها لنطارد كل رموز الفساد الذين تربحوا من خيرات البحر الأحمر ظنا منهم أنهم فوق المحاسبة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة