كان الحادث مؤلما ويحمل من الدلالات ما هو أكثر إيلاما من فكرة الموت غرقا .. الضحايا 9 فتيات صغيرات خرجن للبحث عن المتعة والترفيه.. فلم يحصلن لا على المتعة ولا الترفيه لأن المركب غرق بعد خمسة أمتار فقط من بداية رحلته النيلية، بعض الجثث عادت ليجفف الأهل دموعهم فى أحضانها التى غير الماء ملامحها، وبعض الجثث مازالت فى بطن النيل بصحبة العرائس التى طالما أهداها الفراعنة لشريان الحياة المصرى، غير أن أهل فتيات مركب المعادى لا هم فراعنة ولا هم يرغبون فى أن يجعلوا من جثث بناتهن هدايا للنيل الذى خطفهن غدرا، ومازالوا يبحثون عن الجثث ويقفون بالساعات انتظارا لأى طافى فوق سطح النيل..
الحادث كان شبيها بما حدث فى عبارة السلام، مع فارق أن تلك سفينة وهذا مركب، وهذا نهر والآخر بحر، والضحايا هنا 9 بينما كانوا هناك ألفاً أوأكثر.. والفارق الأهم أن صاحب العبارة مليونير وواصل فهرب للخارج بينما صاحب المركب فقير وبلا ضهر فذهب إلى السجن..ومع كل هذه الفوارق بقيت الأسباب والنتيجة متشابهة إلى حد كبير..
العبارة طمع أصحابها فى المزيد من المال وطمع ركابها فيما تم تخفيضه من سعر رغم زيادة عدد الركاب عن المسموح، وفى مركب حلوان أيضا طمع المراكبى الشاب فى المال، وطمعت الفتيات الصغيرات فى رفقة جماعية تضاعف البهجة فركبن 19 على ظهر مركب لا يتحمل سوى 15 فردا بالعافية..
وبالنسبة للعبارة لا يمكن أن نغفل أبدا دور الجهات الحكومية المعنية التى تقاعست عن مراقبة أمور السلامة والجودة والأمان على متن عبارة معروف جيدا أنها تلعب فى أواخر العمر الافتراضى، وذهبت أجهزة الإنقاذ متأخرة كثيرا ، وفى مركب حلوان أيضا تقاعست نفس الجهات الحكومية عن مراقبة سلامة المراكب السياحية ومدى توافر عوامل الأمان بها وتقاعست شرطة المسطحات المائية فى القيام بدورها وفى عمليات التفتيش الدورى على كل ما يسير على وجه النيل..
وبناء على ما تقدم من أسباب متشابهة، جاءت النتيجة متطابقة، ضحايا بالجملة كل ذنبهم أنهم غلابة وصدقوا الدولة التى من المفترض أن تتكفل بحمايتهن، ضحايا فى عمر الزهور وجثث ضائعة وأشلاء تائهة بسبب جشع التجار والملاك، والموظفين المتقاعسين والفاسدين والمرتشين..ومع ذلك لم يحصل واحد من هؤلاء على نصيبه من الجزاء، تحمل صاحب العبارة اللوم وحده ولم يفكر أحد فى معاقبة الهيئات التى تركت عبارة منتهية الصلاحية تروح وتأتى وعلى متنها مئات الأرواح ، المراكبى الصغير هو الآخر حملته الجريمة 10 سنوات سجناً، ولم تحاكم المسئولين فى الحى أو المحافظة أو المسطحات المائية على تلك المراكب الخربة التى تسير بلا رقابة أو تفتيش.
أنا لا أبرئ صاحب العبارة ولا أنفض غبار سنوات السجن العشرة من على كتف مراكبى حلوان، أنا فقط أدعو لمحاسبة المجرمين الحقيقين، أدعو لمحاسبة هؤلاء الذين تستمر الكوارث لأنهم مستمرون على كراسيهم يزورون التقارير مقابل الإكراميات، ويسمحون للمخالف بالعمل حتى ولو كان على حساب أرواح البشر طالما هو يدفع بسخاء، أنا لا أقصر الحديث هنا على حادثى العبارة والمركب ولكن على آلاف العمارات التى تسقط على الرؤوس لأنها بالرشوة أسست وارتفعت، وآلاف السيارات التى لا تؤهلها إمكانياتها أن تسير على الطرقات ومع ذلك تهرول بلا حساب لأن "الأمين" قبض المعلوم، وعشرات الطرق التى تهبط ويتدهور حالها لأن المهندس المسئول قرر أن يقبض من المقاول ثمن الصمت على المخالفات..
أتحدث عن منظومة كاملة تستحق العقاب، وعن ضميرنا الذى يرتاح لمجرد أن فردا واحد قد تم تحميله الذنب منفردا وذهب إلى السجن أو إلى حبل المشنقة، بينما بقية العصابة مستمرون فى العمل والاستمتاع بكل ما يحدث فى الخارج.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة