الحكومة تظن أن الناس لاتزال تتابع الحدث على القناة الأولى للتليفزيون، وتصدق الأنباء العاجلة التى يبثها قطاع الأخبار، وتغمض عينيها عن الحقائق، وتساهم فى إشعال الأزمة بالأفكار العاجزة .
يضحك هذا المسؤول الحكومى ذو العقل الأعرج، حين ينظر إلى صور مظاهرات الشباب فى الكنيسة أو فى المسجد، يسخر من قلبه، موزعاً الاتهامات الساذجة على الطرفين من المسلمين والأقباط، يهوّن من الأحداث التى تتصاعد أمام ناظريه، ويتفتق ذهنه المتخاذل عن أن ينصح أعضاء الحكومة وأجهزة الأمن بأن تتجاهل (هؤلاء الصبية)، يقع فى الوهم بأنه كلما غاص برأسه فى الرمال أكثر، أصبحت الفتنة بعيدة عن ذقنه الأملس، وكلما أدمن إخفاء الأزمة، كان أكثر قدرة على محاصرة المفتونين بقضايا الشرف، والمعتصمين بحبل الدين وحده، بعد أن انقطعت كل الأحبال السياسية والاجتماعية، ثم لا يصحو الرجل المسؤول من نومه الاختيارى، وإهماله العمدى، إلا حين يرتفع صوت الرصاص، أو تتهاوى جثث القتلى فى الصعيد، أو فى بحرى.
الحكومة بكل أجهزتها التنفيذية تقريباً تدير ظهرها بعيداً، كأنها تخشى أن تنظر إلى عورة محرمة بنص، حين تتعامل مع قضايا الأسلمة والتنصير، والأزمات المتجددة والصاخبة بين المواطنين فى مصر من مسلمين ومسيحيين، والحكومة بكل أجهزتها وبأذرعها التشريعية، والإعلامية، والتعليمية، لاتزال تتعثر فى حركتها الكسول لمواجهة هذه الفتن من الجذور، وتجفيف منابع الطائفية البغيضة فى بلادنا.
الحكومة التى تظن أن الناس لاتزال تتابع الحدث على القناة الأولى للتليفزيون، وتصدق الأنباء العاجلة التى يبثها قطاع الأخبار، تتوهم أنها قادرة على محاصرة أزمة كتلك التى فجرتها الأخت كاميليا، بمجرد أن تمنع معالجة النبأ فى الصحافة الرسمية، أو فى تليفزيون الدولة. والحكومة تتخيل أنها حين تغمض عينيها أكثر، فإن الناس ستمل الكلام، وتنتهى المشكلات من تلقاء ذاتها، دون أن يدرك سادتنا وكبراؤنا أنهم يتأخرون كثيراً، حتى تصل الأزمات إلى حافة الهاوية، وتوشك مصر بأكملها أن تنجرف إلى منزلق خطر لا رجعة منه، ولا نجاة فيه من السقوط المروع.
استحت الحكومة أن تنطق فى أزمة كاميليا، كأنما تقول للغاضبين من المسلمين (انفجروا أو موتوا)، واستحت الحكومة أيضاً أن تتورط فى تهدئة الثائرين فى الكنيسة، هنا فى القاهرة، أو فى الإسماعيلية، أو فى المنيا، كأنها تدعوهم لكى يتقاسموا الموت، أو الغيظ مع إخوتهم من المسلمين. استحت الحكومة كأنها تعلم أن البابا وشيخ الأزهر سيحسمان الأمر، حين تظهر صورهما على صدر صفحات الجرائد الحكومية وهما يتبادلان التهانى، أو يتقاسمان مائدة إفطار فى مبنى الكاتدرائية، إنه نفس الجهل الأبدى الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع، ونفس الشائعات المريضة التى تشعل البلد فى لحظة، فتجعل من يوم عيد الفطر مناسبة للتظاهر، ومن يوم قداس الأحد أو عظة الأربعاء فرصة لإعلان الغضب.
كل هذا والحكومة مطمئنة بأنها ستحسم الأمر بصورة للبابا مع شيخ الأزهر، أو ستعالج النفوس المحتقنة ببرقيات التهنئة المتبادلة فى الأعياد، أو بجمع أطراف الأزمات فى (قعدة بلدى) تتباوس فيها اللحى، وتعلو فيها الضحكات، فيما الناس من الجانبين يعرفون أن ما فى القلب يبقى فى القلب، جارحاً ومراً، وبلا رؤية شاملة للمواجهة.
سأكون مباشراً وواضحاً وصريحاً، إذ إن الأمر لا يحتاج إلى ترطيب المصطلحات، ففى تقديرى أنه إذا استمرت السلطة فى معالجة المشكلات المتكررة بين المسلمين والمسيحيين من إشهار إسلام امرأة، أو تنصر رجل، أو بناء جامع، أو ظهور للعذراء، بهذا التسطيح والتغييب والتجاهل، ودون مواجهة، فإننا قد نفقد معادلة التوازن الحالية، وننحرف نحو أزمة عاصفة لن يتحمل أحد عواقبها.
صحيح أن باقة المشكلات الطائفية التى تنشأ بسببها موجات الاحتقان، تبدو أقرب للأزمات العائلية التى قد لا يجوز التورط فيها رسمياً، لكن الصحيح أيضاً أن الوضعين الاجتماعى والثقافى فى البلد، يمكن أن يجعلا من هذه الجلطات الساذجة فى العلاقات بين المسلمين والمسيحيين أزمة قلبية، تنهى أجواء السلام الاجتماعى إلى الأبد، لو أراد شخص ما، أو جماعة ما، أو دولة ما، استغلالها على نحو يخدم أغراضها، ولا يخدم مصر.
عقول المسلمين والمسيحيين ووعيهم العام بقضايا بلادهم، هو فى النهاية مسؤولية السلطة، وأحد أهم الأدوار التى يجب أن تلعبها الحكومة، فإذا كانت المشاكل التى تتفجر منها الاحتقانات أو الفتن تافهة ورخيصة، فإن ذلك يعنى بالتأكيد أن رسالة الحكومة الإعلامية والتعليمية وجهودها فى التوعية تصل إلى حد التفاهة والرخص، ودور النخبة التنفيذية هنا ليس السخرية من مشاعر الناس التى تربط بين الدين والعائلة والشرف فى نسق واحد، بل دور الحكومة أن تستجيب لعقول الناس، أو أن ترفع مستوى عقول هؤلاء الناس أنفسهم، لكى تتجنب الانحدار فى هذه المنزلقات.
ما جرى فى الكاتدرائية، أو فى جامع عمرو، أو ما يجرى من تراشق عقائدى واجتماعى، وطعن فى الشرف على الفيس بوك، أو فى مواقع المسلمين والمسيحيين، يستوجب أن نستبق أى نوع من الانفجار، ونفكر اليوم قبل غد: كيف يمكن إعداد مشروع لاحتواء أزمات الاحتقان الطائفى فى مصر؟ كيف يمكن أن تكون المبادرة للحكومة وللعقلاء فى البلد قبل أن تقتصر أدوارهم على ردود الفعل الساذجة، والساخرة، وعديمة القيمة أمام ضغوط الرأى العام؟ كيف يمكن أن ننجز تصوراً خلّاقا يؤدى بنا إلى إصلاحات استراتيجية فى علاقة جماهير المسلمين وجماهير الأقباط فى مصر؟ كيف يمكن إدخال تعديلات تشريعية على القوانين الظالمة أو إضافة رؤية أكثر رحابة على المناهج التعليمية، أو إصلاح مناخ الإعلام الرسمى، عديم الحيلة، لكى نتمكن من تجفيف منابع الفتنة الطائفية بدلا من أن تتلاحق علينا المظاهرات اليوم، ثم الاشتباكات- لا قدّر الله- غداً؟
نحن فى حاجة إلى هيئة مستقلة تعمل على تقديم استشاراتها للحكومة فى هذا المجال، نحتاج إلى مجلس أعلى، أو لجنة رفيعة المستوى، تكون مهمتها ابتكار الخطط الاستباقية لمواجهة الفتن الطائفية، ويكون دورها إمداد الناس بالمعلومات الحقيقية، بدلا من أن يقع الجميع نهبا للشائعات، أو المعلومات المتضاربة، وتسوقهم الغيرة على دينهم أو شرفهم إلى تهورات غير محسوبة تدفع ثمنها مصر بكاملها.
يكفينا ما حصدناه من جلسات المصالحة العرفية، ولنستبدل ذلك بدور فاعل للقانون، ويكفينا ما أثمرته السياسات الإعلامية التى تعمدت دفن الرؤوس فى الرمال عبثا،ً وجهلاً، وإهمالاً، ويكفينا ما دفعناه مقابل صور تقبيل اللحى بلا معنى وبلا طائل، نحن نحتاج إلى تفعيل أكثر لدور القانون فى حماية هذا البلد، ونحتاج إلى أن نبادر بأفكار خلاقة لتذويب هذه الفجوات التى يختلط فيها الدين بالفقر بالإحباط بالغيرة والشرف، ونحتاج إلى إعلام راسخ القدمين يعرف أى عقول يخاطب، وإلى أى رأى عام يتوجه، ثم من قبل ومن بعد، نحتاج إلى إرادة رسمية عليا، توجه جميع إدارات الدولة إلى محاصرة الفتن، لا انتظار وقوعها لكى يتدخل الأمن فى المشهد الأخير كالعادة، ثم تنتهى كل مأساة بجلسة عرفية باتفاقات واهنة، ويتجدد الألم والحقد والاحتقان.
يوم المواجهة الكبرى للفتنة الطائفية.." الأعلى للصحافة" يشكل لجنة لدراسة تأثير الإعلام على الوحدة الوطنية.. والفقى يحذر الفضائيات من إثارة الفتنة..و شيخ الأزهر يعبر عن ارتياحه لتصريحات البابا شنودة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة