كان الظلام فى طفولتنا ظلاما حقيقيا، يخبئ فى جرابه الأساطير والأحلام والرهبة، ويأخذنا إلى النوم ويربت على أرواحنا، وكنا إذا أردنا أن نثبت لأنفسنا أننا كبرنا نحشد النور الذى بداخلنا لنسطو على جلاله ونخربش جدرانه، كان صديقا صغيرا نخاف من اللعب معه، وعدوا ضخما نفرح عندما تهينه الموالد والأفراح، كانت المصابيح البدائية الصغيرة صغيرة أمامه، كبرنا، وابيض شعرنا، وأصبحنا فى وطن يقولون إنه وطن النور، ويصدر الكهرباء إلى الجيران ويقطعها على أهل البيت، وأخذ الظلام أشكالا جديدة مبهرة، تراه الآن فى «عز الظهر»، وأنشئت له مولدات تنفق عليها الحكومة الملايين، من أجل محاربة الظلاميين، والظلاميون كما هو معروف ألوان، كان ظلام الطفولة «مجهولا» مليئا بالصور والخيالات «جاموس اسود كتير، وأنا علىّ أحلبه» كما قال فؤاد قاعود، كان له قوام وملمس، ولكنه لم تكن له أسنان ترتدى الدروع نهارا لتفض المظاهرات، وتحاصر الذين يطالبون بحقهم، ولم تكن له وزارة إعلام تروج للعتمة والضجيج والمساحيق والمياه الغازية «لكى يسترجل الشباب»، ولا وزارة ثقافة تتربص بالخيال، ولا وزارة تعليم تزرع أشجاره الهزيلة وتحرم الركض، أصبح الظلام الجديد مكشوفا، يشع فى النفوس، «ويلوى ذراع المضيئين»، ويجند الخفافيش والكلاب الضالة، وعلينا الآن لكى تكبر أشجارنا القديمة أن «نتشعبط» فى طاقة النور التى بداخلنا.. ونضع الظلام القديم فى مكانه.
2
لم تستطع قرانا عقد اتفاق واحد مع الفرح، ومع هذا كنا «فرحانين»، نتسلق أشجار الزنزلخت لنقطف عناقيدها الغامضة، نفرطها ونعبئ «حجورنا» بها، وننتظر مدفع الإفطار لنبدأ هجومنا المنظم على العائدين من الحقول، كانوا يفرحون بالهجوم عليهم، وكنا نطالبهم بالحفاظ على الابتسامات التى كبرنا جنبها، نصنع فوانيسنا بأنفسنا، ونتعثر فى طريقنا إلى الصلاة، كبرنا أكثر مما ينبغى، ولم تعد قرانا الوسيعة قرى، وانكسرت الابتسامات على البلاط، ومات أهلنا فجأة، وصرنا نستقبل ونودع الشهر الكريم فى مدينة محاصرة بالأحزان والأكاذيب.
3
عندما وصلت السيدة الحديدية ذات القبعة والشعر المصفف مارجريت تاتشرمع رفيقها رونالد ريجان إلى السلطة، خسرت الإنسانية وكسبت الرأسمالية الجديدة، وكانت شركة الأزياء الإيطالية بينتون رائدة فى التعبير عن العالم الجديد، وضعت إعلانات عملاقة فى كل مكان -حتى على كوبرى أكتوبر- عليها صورة طفل أسود جائع فى لحظة احتضاره من مرض الإيدز، وزى عسكرى بوسنى ملطخ بالدم، ومساجين ينتظرون الإعدام، صدم إعلان قتلة بينتون -على حد تعبير نورينا هيرتس مؤلفة كتاب السيطرة الصامتة- الجميع، لم تبحث هذه الإعلانات فى أخلاقيات الحرب ولم تحاول أن تخفف من الفقر أو تشفى من الإيدز، كانت الغاية الوحيدة هى زيادة المبيعات، أصبحنا نعيش فى فقاعة بينتون، لأن الحكومات التى حاربت فى الماضى من أجل الأرض صارت تناضل الآن بشكل عام من أجل مؤشرات السوق، وغدت إحدى وظائفها إيجاد بيئة يمكن أن تزدهر فيها الشركات وتجتذبها، وأصبح دور الشعب توفير البنى التحتية التى تحتاج إليها هذه الشركات وبأقل تكلفة وحماية نظام حرية التجارة العالمية، رجال السياسة أصبحوا فى منزلة أدنى من رجال الأعمال، ودولة السياسة أصبحت دولة الشركات، وأصبحت الدولة تهتم بالمستهلك لا المواطن، لقد صارت الحكومة «حكومة شركات تديرها الشركات من أجل الشركات» كما قال الرئيس الأمريكى واد فورد هايس فى القرن التاسع عشر، فى شهر رمضان تجاوزت رسائل الإعلانات فى التليفزيون المصرى رسالة بينتون ودخلت على المستهلك (المواطن سابقا) فى بيته، وامتهنت أناشيده الوطنية، وجعلته يشعر أكثر بأنه وحيد إلى درجة مؤلمة.