أواصل الكتابة عن إبراهيم باشا من خلال مذكرات "نوبار باشا" الصادرة عن دار الشروق.
مكث إبراهيم فى باريس أربعين يوما تعاقبت خلالها المقابلات والحفلات ودعوات العشاء دون توقف، وبالإضافة إلى ما سبق من حديث نوبار باشا عن الزيارات الرسمية للمصانع، مثل مصنع "الجوبلان" للنسيج والسجاد، وبعض المصانع الأخرى، ويقول إن إبراهيم كان يبحث فى كل التفاصيل باهتمام شديد ويناقش أدق الأمور وفى جيبه قطعة من الخبز كان يأكل منها أثناء زيارته للمصنع.
ويضيف نوبار، أن إبراهيم كان يعرف كل شىء يتعلق بالصناعة، وكان على علم بكل ما تحقق فى هذا المجال، لأنه درس كل هذه المعلومات من خلال التقارير التى كانت تصل إليه مع القادمين إلى مصر من ذوى المكانة الرفيعة أثناء فصل الشتاء ليحلوا ضيوفا على الوالى محمد على، حيث كان إبراهيم يتجاذب معهم أطراف الحديث.
ومن زيارة المصانع إلى زيارة متحف فرساى، سيكتشف إبراهيم باشا جانبا من أوروبا لم يكن هو ولا أبوه يعرفان عنه شيئا، يقول نوبار إن اللوحات التى كانت موجودة فى المتحف لم تكن هى التى يمكن أن تسترعى اهتمام إبراهيم، فالرسم كان بالنسبة له مثل الموسيقى حيث كانت اللوحات كبيرة الحجم تساوى فى نظره الآلة الرئيسية فى الفرقة الموسيقية التى تعزف وهى بالنسبة لفن الموسيقى تعكس الذوق الأرفع مقاما، لكن مجموعة اللوحات المعروضة فى فرساى كانت تشكل حقبا متعاقبة وكاملة لتاريخ أوروبا، ويضيف نوبار أن كل لوحة كانت تمثل واقعة تاريخية كان يجب عليه أن يشرحها ويعرضها كاملة على إبراهيم فى نفس الوقت والمكان الذى يقفان فيه.
وإذا كان إبراهيم باشا قد بحث كل التفاصيل التى تتعلق بالصناعة أثناء زيارته إلى مصنع"الجوبلان"، فإنه وجد فى المتحف، وكما يقول نوبار باشا، أن لوحاته الفنية التى تمثل الماضى الأوروبى وهى تمثل فى نفس الوقت حاضر الشرق وأحداثه المعاصرة، وبحكم دراسات نوبار للتاريخ كان يحب شرح الدراسات التاريخية لإبراهيم، وكان إبراهيم يهتم بشكل رئيسى بالجزء الخاص الذى يتحدث عن كيفية استطاعة أوروبا للوصول إلى الوضع الذى عليه.
حاضر أوروبا الذى تخطى الشرق بمراحل كبيرة، ويشمل على فروق فى التقدم الصناعى، والتقدم الفنى والثقافى واحترام للقانون، يروى نوبار باشا قصة لإبراهيم تدلل على قوة وعيه بهذا الفارق.
يقول نوبار إنه أثناء وجودهما فى مدينة ليفربول البريطانية بينما كان إبراهيم يتأمل مستندا إلى نافذة حجرته صاح فجأة قائلا، "تعال، تعال، بسرعة"، وأشار إلى مجموعة صغيرة من الأشخاص فى الطريق العام، قائلا، "هل ترى هذين الشخصين؟، إنهما مخموران، وكانا يتشاجران عندما وصل هذا الشرطى إلى المكان، الذى لم يفعل سوى أنه أشار إلى عصاه فما كان منهما إلا أن فضا الاشتباك بينهما على الفور، وهما الآن يتبعانه بمنتهى الهدوء إلى نقطة الشرطة، إن هذا يمثل عظمة إنجلترا، وليس فقط فى المصانع التى قمنا بزيارتها".
يرى نوبار باشا أن ترديد إبراهيم للكلام السابق، وهو الرجل غير المثقف والذى قال ما قاله رغم أنه لم يعش فى أوروبا سوى بضعة شهور قليلة، إنما يمثل الرزانة والانسجام فى الملكات والقدرات، وبتعبير أقوى وأدق، كان إبراهيم يصل إلى حدود العبقرية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة