◄◄ القانون كان يمنع وجود محال بين القصور وتعليق المناشر على واجهة المساكن وتهوية فرش السرير فى البلكونة
«وعايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان يرجع يا زمان».. هذا لسان حال هوانم جاردن سيتى «الأصليين» عندما يفرض عليهن الواقع وبشكل دائم مقارنة بين حياتهن فى الماضى ومعيشتهن الآن.. و«زمان» بالنسبة للهوانم هو الذكريات التى يحملنها كسلاح يعينهن على مواجهة واقع لم يتوقعنه... و«زمان» عند هوانم جاردن سيتى حكايات ومفارقات وتندرات تجذب كل من يسمعها حتى لو لم يعش الزمن الجميل.
وحى جاردن سيتى الواقع بين منطقتى قصر الدوبارة والقصر العالى (كورنيش النيل) ليس مجرد تجمع سكانى لصفوة المصريين.. ولكنه شاهد على أحداث تاريخية اجتماعية وسياسية شاركت فيها كل طوائف الشعب تحت قيادة الطبقة الوسطى فى وقت التحمت فيه المصالح الوطنية للصفوة بالمصالح الوطنية للطبقات الشعبية.
وملامح الحى وأشجاره دليل لم يطمسه الزمن على رقى المكان ورسالة جمال لكل من لم يشاهد مصر الحقيقية.
من وسط أوراق الأشجار الخضراء ومن بين غصونها هادئة الحركة وفى مناخ يسوده سكون غير ممل جلس البعض من هوانم جاردن سيتى يروين ذكريات قد نكون نحن فى أشد الحاجة لسماعها أكثر من حاجتهن لسردها.
وفية هانم خيرى بدأت حياتها موظفة فى وزارة الاقتصاد، وحصلت على كورس فى كتابة السيناريو، وكتبت العديد من الأعمال السينمائية والتليفزيونية، شاركت فى كتابة سيناريو «القاهرة 30»، و«القضية 68»، و«سقطت فى بحر العسل»، ولها 40 عملا تليفزيونيا أشهرها مسلسلات «الحب وسنينه»، «ظلال الماضى»، «زوجات صغيرات»، وحلقات «سيداتى آنساتى»، كما كتبت العديد من الأعمال الأدبية أشهرها رواية «مدينة الحدائق» التى تؤرخ فيها لحى جاردن سيتى.
«وفية» تحكى قصة نشأة الحى التى بدأت فى عام 1905 قائلة «المنطقة كلها فى الأصل من أملاك إبراهيم باشا بن محمد على باشا الكبير، وكان مكونا من قصرين قصر الدوبارة والقصر العالى الذى تسكن فيه إحدى زوجتيه.. وقسم القصران بعد ذلك إلى شوارع وميادين بعد أن تحولا إلى حى كبير تزينه الأشجار الكثيفة وخاصة أشجار المانجو، وسميت شوارع الحى بأسماء وأقسام القصرين وفقا لاستخداماتها، مثل شارع الفسقية والبرجاس والسلاملك والحرس والديوان ودار الشفاء والجهادية وغيرها».
وتستطرد وفية قائلة: ظل الحى يتسم بالهدوء والرقى والبعد عن الضجيج حتى الآن، بعكس أحياء مجاورة مثل المهندسين والروضة والمنيل، التى تحولت إلى أسواق تجارية لتكاثر عدد المحال التجارية بها، وكانت معظم منازل الحى عبارة عن فيلات وقصور أو عمارات مكونة من طابقين أو ثلاثة على الأكثر، عملت فيه معاول الهدم وحولت بعضها إلى عمارات شاهقة قبل أن يصدر قرار بمنع هدم الفيلات واحتلت هذه العمارات.
منى هانم متّى، انتقلت للعيش فى حى جاردن سيتى مع عائلتها منذ عام 1947، وكان والدها رجل أعمال يمتلك شركة تأمين وبعد تأميمها، استمر فى العمل بها كمدير، اشتغلت منى فى جمعية الصداقة المصرية الفرنسية لمدة 16 سنة وبعدها بدأت فى بناء مصنع إيفرنا للثلاجات وعملت كسيدة أعمال 28 سنة، ونتيجة الركود وأزمة الجنيه والدولرة فى التسعينيات اضطرت لبيع المصنع، واعتزلت العمل الاقتصادى، وتفرغت للعمل الخيرى.
«منى متّى» ترجع بالزمن أبعد من وفية خيرى، وتروى «حى جاردن سيتى كان اسمه تل العقارب، وكان بمثابة مقلب قمامة لوسط البلد، طلب الخديو من الفرنسيين إعادة بنائه ليكون مقراً لإقامة الأجانب، وقام مهندسون فرنسيون وإيطاليون ببنائه، وأطلقوا عليه «جاردن سيتى»، وكانت كل المبانى سواء فيلات أو قصور أو حتى عمارات يحيط بها الحدائق من كل مكان، وأغلبها شجر المانجو. وتفسر «منى» السبب فى ذلك بأن مستر فيشر المقيم فى جاردن سيتى هو أول من جلب أشجار المانجو من الهند وزرعها فى مصر، كان حريصا على انتشار هذه الثمرة الجديدة.
وتستكمل حديثها: أقام فيها الإنجليز سكناتهم وتأسست السفارة البريطانية، التى كانت ممتدة حتى النيل قبل بناء كورنيش النيل تحت إشراف عبداللطيف البغدادى أحد رجال الثورة، ثم انتقلت لقصور ومبانى جاردن سيتى كبار العائلات وباشوات مصر مثل فؤاد سراج الدين، والنحاس باشا، والقرشى، وعبد اللطيف المردنلى. وتقارن منى بين حى جاردن سيتى فى الماضى والحاضر حيث زادت القمامة ولم يعد هناك من يهتم بنظافة الحى، وتقول «زمان كانت سيارات الحى تمر تجمع القمامة، وترش الماء، وبموجب القانون كان ممنوعا عمل مناشر للغسيل على واجهة العمارات، أو تهوية فرش السرير فى البلكونة بعد الساعة العاشرة صباحا، كان فيه ملاحظ بيمر من الحى على الشوارع للتفتيش وكانت فوانيس الشوارع مضاءة بالغاز الذى تحول إلى الكهرباء ولم يكن مصرحا للمحال التجارية بالعمل فى الحى».
وتذكر منى أن حى جاردن سيتى سكنه عدد كبير من أثرياء الأجانب واليهود والأقباط، منهم داود عدس المليونير اليهودى صاحب المحال التجارية الشهيرة، وإيلى موصيرى وجورج ويصا وصيدناوى وغيرهم.
منى هانم القرشى: فتاة صعيدية من ديروط محافظة أسيوط، بنت أحمد باشا القرشى من ثوار 1919 تعلمت حتى المرحلة الثانوية ولم تلتحق بالجامعة لرفض عائلتها الاختلاط بين الشباب والفتيات فى الجامعة، ولكن بعد الزواج استكملت تعليمها الجامعى، وبدأت العمل فى الهيئة الأفروآسيوية للتعاون الاقتصادى، ثم بدأت العمل التطوعى منذ السبعينيات، وعقب زلزال 1992 أسست جمعية شعبية لإعادة تسكين منكوبى الزلزال فى المقطم، وبعدها شاركت فى عضوية الاتحاد النسائى الدولى، خاضت تجربة الانتخابات البرلمانية عامى 1995 و2000، ومرشحة لخوض الانتخابات البرلمانية هذا العام من خلال كوتة المرأة.
حول النظم والتقاليد العرقية للبيوتات الراقية تقول منى «كان البيت يسكنه بجانب أصحابه من الباشوات كل من يعمل فيه، البواب وأسرته والطباخ وأسرته... ويأكل العاملون بالبيت من نفس سفرة أصحاب البيت، ويطلق على سفرة العاملين بالبيت «سفرة العائلة» احتراما لهم ولآدميتهم، وكنا لانتلفظ بكلمة شغالة أو خادم، لم يكن هناك تليفزيون أو كمبيوتر، كان فيه صالونات مملوءة بالضيوف والأهل والأصدقاء، الزيارات مستمرة، عكس اليوم الصالونات مغلقة لانعدام التواصل بين الأقارب وأفراد الأسرة حتى بين الأبناء وآبائهم، والطعام كان يطبخ بعناية، أصناف متعددة الكثير منها اندثر مثل طاجن اليخنى، والحمام بالفريك، وكشك الفراخ، والكبيبة والحلويات الشرقية». وتؤكد «منى» حقيقة أن كل ملاك القصور والفيلات فى جاردن سيتى كانوا من المنتمين للأحزاب السياسية ومن صناع القرار السياسى لذلك كان بكل منزل ديوان مقابلات لأعضاء الحزب الذى ينتمون له، للتشاور والمجاملة أحيانا، حتى السيدات كن يشاركن برأيهن من خلال صالونات بعيدة تماما عن صالونات الرجال، تتداول فيها المعلومات وأحداث المجتمع الذى لا تشارك فيه، وتؤكد أن هوانم جاردن سيتى كن لا يشتركن فى المظاهرات لأنها تجمعات كانت تتسم بالعمومية. نائلة هانم غيطة، عاشت بحى جاردن سيتى مع والداها المستشار أحمد يحيى غيطة ووالدتها، عمها فؤاد باشا سراج الدين، عملت محاسبة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسة بجامعة القاهرة، انضمت لحزب الوفد منذ نعومة أظافرها وهى عضو بالجمعية العمومية لحزب الوفد.
تصف نائلة غيطة الفرق بين تعليمها وتعليم أحفادها بأنه فرق بين السماء والأرض، ففى طفولتها تعلمت بمدرسة «راهبات مير دى ديو» الفرنسية بجاردن سيتى، وكانت من أهم المدارس التى تهتم بتدريس العلم والأخلاق والسلوكيات، لذا اعتقدت أنها أفضل مدرسة لحفيدتها، ولكنها اكتشفت أن الأحداث والتغيرات التى حدثت لمصر أثرت بالسلب على مدرسة المير دى ديو كغيرها من المدارس، بل على التعليم كله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة