محمد فخرى

لكم مدينتكم.. ولى مدينتى

السبت، 25 سبتمبر 2010 08:36 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أسوأ شىء فى العالم أن نتعامل مع الأحداث التى تدور فى مصر، كما يتعامل سائق الإسعاف مع المصابين والمرضى والقتلى يومياً، فهو يقلهم دون أدنى دهشة أو تعاطف أو رد فعل يوازى حوادثهم، وربما لا يميزه عن سائق الميكروباص سوى جمع الأجرة من الزبائن، وحتى هذه.. يفعلها سائقو الإسعاف الخاص.

وربما كان الفارق الوحيد بيننا وبين سائق الإسعاف، أن الأخير له عذره بعد أن أصبح فاقد الدهشة ودائم الاعتيادية، فما رآه قد أكسبه المناعة ضد المفاجأة.

فها هو الآن وبعد سنوات قضاها فى عمله يأتيه الأمر بالتحرك لإنقاذ بعض المصابين، فيلتقط اللقمة الأخيرة من ساندويتش الفول بسرعة ثم يحمل كوب الشاى الساخن ويضعه على "تابلوه" السيارة وينطلق مسرعاً، وما إن يرتشف عدة رشفات حتى يصل إلى مكان الحادث القريب.. يترك كوب الشاى نصف الممتلئ ليساعد المسعف فى حمل المصابين الذين هُشمت عظامهم وأخفت الدماء ملامح بعضهم فى حين لقى أحدهم مصرعه.. لحظات وينتهى من إغلاق الباب الخلفى للسيارة، وهو راضٍ عن نفسه تمام الرضا، فقد نجح فى حمل الجميع دون الحاجة إلى استدعاء سيارة أخرى، يجيب على زوجته صاحبة الرنة المميزة على تليفونه المحمول قبل أن يستقر مرة أخرى على مقعد القيادة، يضع المحمول بين كتفه وأذنه ليطلق "سارينة" سيارته بيده، فى حين يمسك باليد الأخرى كوب الشاى نصف الممتلئ ليتجرعه مرة واحدة بعد أن فقد حرارته.

هكذا يستقبل سائق الإسعاف زبائنه، وهى نفس الطريقة التى نستقبل بها الأحداث اليومية فى مصر، فقد فقدنا جميعاً دون أن ندرى نظرتنا "البكر" للأشياء، وفطرتنا التى خلقها الله بيضاء تحكم على الأشياء كما هى، فتندهش وتضحك وتحزن وتتفاعل حينما يستوجب الأمر ذلك، أما أن تتبلد مشاعرنا طوال الوقت، وأن تمتلك وجوهنا انطباعاً واحداً تمنحه لمن يمد لنا يده بالورود ومن يمد لنا يده بالخناجر.. انطباعاً واحداً نمنحه لطفلنا الصغير فى أول يوم له بزيه المدرسى، هو نفس الانطباع نعطيه لأحد مجرمى الحرب وهو يمر مبتسماً عبر شاشة التليفزيون.

والسؤال أهم أين كفاءة الحكم على الأشياء؟ ثم أين رد فعلنا المناسب لها؟

ولقد استدعى كل هذه الأشياء فى مخيلتى عدداً من أحداث الساعة التى مرت علينا فى مصر على مستوى الخاصة والعامة مروراً سريعاً، دون أن نعطيها ما تستحق من الدهشة أو الضحك أو حتى البكاء مرارة، وعلى رأس تلك الأحداث.. ما حدث أخيراً من بطلان لعقد "مدينتى" بأمر القضاء، فقد سادت مصر بمجرد صدور أول حكم مجموعة من ردود الفعل العجيبة، وأول هذه الأشياء التى تدعو إلى الضحك – وعلى الرغم من ذلك لم يضحك أحد – إصرار الحكومة على رفض الهدية وردها والطعن عليها، فقد نسى الجميع فجأة شعارات تطبيق أحكام القضاء، واعتبار أن الحكم عنوان الحقيقة، ورغم أن العقد باطل بحكم القضاء، إلا أننا اكتشفنا وقتها أن الحقيقة نسبية، فقد تفوق المسئولين على محامى الشركة فى الدفاع عن حق الأخيرة فى الأرض، حيث برز لنا الوزراء يقللون من قيمة الحكم ويسخرون منه، بل ويسفهون من نتائجه، والعجب العجاب وما يستحق الضحك أن تطعن هيئة المجتمعات العمرانية فى الحكم وتعلن رفضها استقبال أية أموال من حاجزى الوحدات – وفجأة نجد الحكومة التى تبتكر الحيل والأفاعيل للاستيلاء على جنيهات البسطاء زاهدة وراضية وقنوعة وترفض استرجاع مليارات الفقراء، ومن لا يملك يعيد الأرض لمن لا يستحق – حسب حكم القضاء.

ورغم أن الموقف مضحك وغريب بكل المعايير، إلا أن الأغرب من ذلك والأكثر إضحاكاً أن يمر الموقف دون اندهاش أحد، ودون أن يطالب أحد الحكومة أن تقبل هدية القضاء، "والنبى قبل الهدية"، خصوصاً إذا ساقها الله لتكفير ولو جزء بسيط من خطايا وسيئات حكومات طالما فرطت فى أراضى مصر بأبخس الأثمان، وما المانع خصوصا وأن وزير الإسكان الحالى لم يكن هو المانح لهذه الأرض بل تمت فى عهد الوزير السابق.

وأخيراً يأتى حكم المحكمة الإدارية العليا ليكون آخر عنوان للحقيقة التى يريدون جعلها بألف وجه.. تارة يقولون: آلاف الحاجزين وأموالهم، وتارة يقولون: نخشى على العمالة التى تتجاوز الآلاف وتعمل بالمشروع، وتارة ثالثة يقولون: المساهمين بالشركة وأموالهم، وتارة رابعة يقولون: نخشى من المساهمين الأجانب ومن التحكيم الدولى، خوفاً من تكرار أزمة "وجيه سياج" حتى لا تتكلف الدولة مبالغ طائلة.

وبعد هبوط البورصة وصعود نجم المهندس الفخرانى تنعقد لجنة قانونية لحل الأزمة، ويستبشر الجميع خير فها هى الحكومة قد جاءت بجهابذة القانون، وعفاريت الدستور، "حيث العراقة فى التفصيل والحياكة"، فإذا بالمغفور لها اللجنة تحل الأمر بالفهلوهة و"الفقاقة"، وبدلاً من استعمال الحيلة استخدمت التحايل، وضد من، ضد الشعب "الغلبان"، فقد أعلنت أنها ستنفذ أحكام القضاء، وبعدها مباشرة ستعيد الأرض لنفس الشركة "يا حبيبى".. وبعد كل هذه المسرحية الهزلية ألا يحق للقابضين على الدهشة أن يلجأ كل منهم للمثل الشعبى البسيط القائل "أنا لا أعطى عقلى لأحد أبداً"، ألا يحق له أن يقول "لكم مدينتكم.. ولى مدينتى".. مدينتكم التى لا تعرفون الحق فيها إلا بالرجال، ولى مدينتى التى لا أعرف فيها الرجال إلا بالحق.. لكم مدينتكم التى غسلت فيها عقول الخاصة قبل العامة بالمصلحة والمنفعة وضغوط الحياة اليومية، فبات الجميع لا يجد للدهشة طريقاً ولا للحقيقة سبيلاً، ولى مدينتى واضحة المعالم، حيث دروب الحق والحرية والجمال فى اتجاه شوارع الباطل والظلم والشر والعبودية والقبح والتحايل والالتفاف فى الاتجاه الآخر.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة