يخطئ من يظن أن مظاهرات المسيحيين الأخيرة وغضبهم المنفلت كان بسبب العمل الإرهابى القذر الذى فجر كنيسة القديسين.. هى فقط القشة التى قسمت ظهر البعير.. فنحن جميعا مسلمون ومسيحيون نعانى أصناف من القهر والظلم المتراكم نادرا ما تجده حتى فى عالم الحيوان.. نحن جميعا حانقين ومغلولين وننتظر فقط سبب مناسب للانفجار.
فما هو السبب الأنسب للغضب من الدين والعقيدة؟ خاصة وأن النظام عودنا على (التطنيش) منذ فترة طويلة.. فالدولة لا تسمع أصوات الناس الآن إلا لو جاءت صارخة وعنيفة ومنفلتة هنا فقط يبدأ المسئولون فى الالتفات للغاضبين.. حتى أصبحت المظاهرات والاعتصامات والتجمعات المحتجة ثقافة مصرية وسلوك معتاد منتشر فى كافة الأرجاء وعلى تنوع الفئات ومستمر كل يوم بلا توقف.. لذلك كانت المظاهرات والتجمعات الهائجة للمسيحيين هى الطريق الوحيد لتسمعهم الحكومة، لم يختلفوا عن الملايين من المسلمين والمسيحيين الذين تظاهروا فى ميدان التحرير او اعتصموا أمام مجلسى الشعب والشورى لتسمع مطالبهم الحكومة وليتهم نجحوا!!.. المصريون الآن يخرجون بالآلاف بسبب موت واحد من قريتهم أو مدينتهم صدمته سيارة هو يعبر أمام منزله الطريق السريع.. فهل يطالبون الحكومة بإعادة الموتى أما يصرخون لإنشاء مطب صناعى وبعض اللافتات الرخيصة التى توضح لقائدى السيارات أنهم يمروا عبر منطقة سكنية.. وهو حق طبيعى توفره العديد من الدول للتجمعات الحيوانية فتجد لافتة كبيرة تحدد سرعتك لأنك ستمر فى طريق على أطراف الغابة او تخترقها.. لذلك وصل حجم التظاهر والاعتصام فى مصر الى ارقام قياسية غير مسبوقة لأن كل من له طلب أو مظلمة أو حق كان عليه أن يصرخ وبشدة.. وأصبحت المظاهرات هى الأنسب فى لفت الانتباه وبدء التحاور.
للأسف أصبحت ثقافة للجميع موظفين وعمال وفلاحين ومثقفين على اختلاف دياناتهم ومطالبهم فلماذا نتعجب من مظاهرات الإخوة المسيحيين وانفلاتهم وحنقهم خاصة الشباب منهم بعد أن أرغمنا النظام على هذا الطريق وجعله الوسيلة الوحيدة للتفاهم مع مسئوليه.. ولا أحتاج إلى فتح ملفات القهر المتراكم الذى يعيشه المصريين فى النواحى السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأننا حفظناه ونعرف كل خيوطه ونعيش تفاصيله كل يوم ما بين فساد وغلاء وبطالة وفقر ومرض.. فكل يوم يأتى علينا أسوأ بكثير من ماضيه.. ومع كل يوم ينعدم الأمل ويغمرنا الكبت والغضب.. ولكن بالنسبة للمسيحيين كان الغضب أشد لأن الهم عندهم همين.. فإذا كنا نحن المسلمين نحلم بتداول السلطة وبالتغيير والإصلاح فهم محرومون أصلا من مئات المناصب بل يحرمون من الترقى والوصول إلى مراكز قيادية فى العديد من المؤسسات الحكومية وبلا منطق مفهوم.. وإذا كان ملجأ الملايين منا هو الجامع فليس لهم الحرية حتى فى بناء الكنائس أو ترميمها.. ولكن هذا ليس الهم الكبير.. فغضب المسيحيين ليس على النظام السياسى وحده، بل وللأسف علينا نحن أيضا.. فقد صدمهم المجتمع المصرى لسنوات عديدة حتى ظنوا أنهم أقلية ودرجة ثانية فى المجتمع.. وللموضوع جذور قديمة بدأت مع توسع المد الإسلامى المتشدد الذى زرعته الجماعات الإسلامية تحت شعار الإسلام هو الحل والأفكار المتذبذبة حول العلاقة مع المسيحيين وزاد مع انتشار هجرة المصريين إلى دول النفط والخليج وعودتهم ببعض المال والكثير من الأفكار المرتبكة والخاطئة حول الدين المسيحى وتعمق مع تدنى مستوى التعليم وتخلف الثقافة وانتشار الجهل والفقر والمرض.. النتيجة أن الكثيرين منا أصبحوا أكثر تزمتا وتمسكا بمظاهر الدين وقشوره المتشددة وابتعدوا تماما عن سلوك المصريين ورؤيتهم الوسطية السمحة للدين.. غلب الظاهر فكر الباطن.. صرنا أكثر الشعوب تمسكا بمظاهر التدين وأكثرها التفافا عليه حتى فى سلوكنا اليومى من بيع وشراء وإتقان للعمل وأمانة فى التعامل وتنوع فى الفساد.. ومع الأيام تطور هذا الشكل الدينى الظاهرى وانتشر فى ضراوة ليميز بيننا كمسلمين أولا وكمسلمين ومسيحيين فى العموم.. فعلى سبيل المثال أصبحت الفتاة الغير محجبة توصف تلقائيا بأنها سافرة أو (على غير هدى) أو مسيحية وثم أصبحت الفتاة المحجبة غير متدينة لأنها لا تلبس الخمار ثم أصبحت مرتدية الخمار مقصرة فى دينها لأنها ليست منقبة؟.. هذا التدرج المتشدد الذى حدث للمجتمع المصرى كان من أهم أسباب التمييز بين المسلمين والمسيحيين واندمج مع أفكار سلبية حول الدين المسيحى والتعامل مع المسيحيين.. هو الذى خلق الأنا وأجبر المسلمين على النظر للمسيحيين بأنهم الآخر والعكس صحيح.. رغم أن الكيان فى الأصل واحد.. فأضعف هذا التشدد الأحمق التعاملات الاجتماعية بين المصريين من الديانتين وقفل باب العلاقات الإنسانية بين فئات عديدة اقتنعت فى غباء بأن التشدد مع الديانات الأخرى هو قمة التدين.. وانتشرت تلك الأفكار العجيبة فى المدارس والشوارع ودور العبادة ووجدت طريقها بسهولة إلى الإعلام خاصة الفضائيات واستغلت جهل الأغلبية وفقرهم وسهولة أقناعهم بكوارث تحت اسم الدين فظهر بيننا من يقتنع أن الأكل من يد المسيحى حرام والتعامل التجارى أو المالى معه مكروه وأنهم يضمرون لنا الشر من قديم الأزل.. والعشرات من الأفكار الحمقاء التى أصبحنا نتداولها إما فى اقتناع أو تعود أو حتى مجارة للآخرين .. رغم أن الدين الإسلام لمن يعلم أعظم وارحم من هذا العبث.. وعلى الطرف الآخر وقف المسيحيين وتعاملوا معنا بنفس الأفكار المتطرفة فانغلقوا على أنفسهم مقتنعين أنهم أقلية تحاول الحفاظ على هويتها ووجودها وظهر بينهم العديد من التيارات المتشددة التى تدعو إلى الفتنة وتروج للصراع، وانتشرت الأفكار السلبية والكريهة عن المسلمين واتهموهم بالعدوانية والهيمنة، وبأننا نسعى لأسلمتهم جميعا أو إبادتهم.. واشتد المزاد بين الطرفين فى الصغيرة والكبيرة.. فبدأ الإصرار على أن تحمل أسماء الأبناء التمييز الدينى وانتقل ذلك إلى أسماء وهوية المحلات والشركات وبعدها عرف سوق العمل شرط الدين فى التوظيف وأصبح لهم أماكن تعرف بهم وأماكن تعرف بنا ثم دخلنا فى صراع غريب حول من دخل الإسلام منهم أو من تنصر منا وكأن هذا الذى غير دينه غير الكون من حولنا وخربه.. ووقف المثقفون والعاقلون عاجزين أمام هذا الشطط خاصة مع تضخم قوى التشدد فى الطرفين حتى أن المعترضين على هذه الحماقات اتهموا فى عقيدتهم وقوميتهم الدينية.. (وزاد الطين بله) اختفاء الحرية السياسية الذى أدى إلى اتساع الفجوة بين الطرفين المسلم والمسيحى.. فحينما يجرم النشاط السياسى ويحرم فى المجتمع.. تصبح مفاهيم العصبية والعزوة والنعرة الطائفية هم البديل عن الأحزاب والنقابات والتيارات السياسية.. وكلما قل الشعور بالعدالة الاجتماعية كلما تعاظم الشعور بالقبلية، ومع انخفاض حرية الأفراد يزداد البحث عن حقوق الفئات والطوائف ولو على حساب مصالح المجموع .. لينقسم المجتمع على نفسه وتضيع فكرة الكيان الواحد أو المواطنة بلا تمييز.. علاقة المسلمين بالمسيحيين كانت ضحية لكل السلبيات السياسية والاقتصادية والثقافية التى نعيشها.. مجتمع غاضب محتقن يهرول خلف لقم الخبز خوفا من الموت جوعا.. فماذا ننتظر من مجتمع يعيش 60% منه تحت خط الفقر ومثلهم فى جهل.. ورغم أن النظم السياسية المتعاقبة هى السبب الرئيسى لما وصلنا إليه بما حملته من شتى أنواع القهر السياسى والفساد وتدميرها للثقافات المعتدلة إلا أننا كأفراد ومجتمع نتحمل جزء كبير من الخطيئة على الأقل لأننا كنا تربة خصبة لهذه السموم لم نرفضها ولم نلعنها بل ركنا إلى السلبية أو مجارات المتخلفين خوفا من لعنتهم الدينية الكاذبة أو سلطتهم الزائفة كدعاة ومصلحين، خاصة فى المجتمعات العشوائية الجاهلة التى غمرت أرجاء مصر فى الريف والحضر واحتضنت الملايين من السكان مسلمين ومسيحيين.
لو لم نعترف بالخطأ فلا سبيل للإصلاح والوضع مقلق وكئيب والفتنة تضخمت والجدار ارتفع وقد يتحول فجأة إلى حدود كما حدث فى السودان.. ولن أبرر هذا كما يحلو للكثيرين بأن هناك أيد خفية.. بل فلنقولها بصدق إنها أيادينا الغبية التى لم تقدر نعمة الوحدة والتكاتف التى ميزت شعب هذه الأرض منذ مئات السنين.. والحل الوحيد أن نطهر أيادينا من هذا العبث وأن نقف أمام تلك الأفكار التافهة وندمرها قبل أن تدمر وحدتنا.. نواجهها كأفراد وكمجتمع قبل أن ننتظر إصلاح سياسى أو تغيير وزارى، يجب أن نفهم ونعلم أبنائنا أن الطريق واحد والمصير واحد وأن الفتنة لعنة.. يجب أن يصدقوا أن الدين لله والوطن للجميع أو بالأصح الدين لله وما تبقى من الوطن للجميع.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة