من سيدى بوزيد الأبية شاءت الظروف أن تنبعث الحياة من جديد فى الجسد العربى الهامد بتونس، حيث ولد شاعر الحرية الشهير "أبو القاسم الشابى" صاحب قصيدة "إرادة الحياة" التى يحفظ مطلعها كل محب للحرية وكل من يعول على دور الشعوب فى التغيير والإصلاح ومقاومة الحكام الجبابرة، حيث يقول الشابى "إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر.. ولا بد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر".. وقد تحطمت فى تونس كل القيود والمخاوف، وواجه الشباب الثائر الفساد والظلم والطغيان بصدور عارية، لم تخفهم فرق القناصة الملثمون الذين احتلوا أسطح المنازل وأمطروهم بوابل من الرصاص الحى، فى صدورهم الغضة، لم تنكسر إرادتهم، لم تثنهم قوانين الطوارئ ولا حكم الغاب، لم يصدقوا توسلات حاكم كان البطش والخوف والفساد والظلم هى أدواته فى حكم شعبه طوال ما يقرب من ربع قرن، لم يثقوا فى وعوده بأنه لن يكون حاكماً لهم مدى الحياة.
لم أتوقع ما جرى فى تونس لأنى أعلم جيداً كيف كانت تدار الأمور بهذا البلد الجميل الذى ينبض بالعروبة، ويشع بنور الثقافة وينعم بقدر هائل من حب العلم والمعرفة والتطلع دائماً إلى التطور والتقدم.. هذا الشعب الذى لا يعرف العرب عنه الكثير.. اليوم أصبحت تونس شعلة الحرية ومنارة للديمقراطية فى صحراء العرب المقفرة.
نعم دفع عشرات الشباب أرواحهم طواعية ثمناً لهذه الحرية الغالية، نعم دفع أصحاب المحال والسيارات والمؤسسات والشركات ثمناً لما جرى.. لكنه ثمن رخيص جداً لو قورن بقيمة ما تحقق على الأرض.. فكرامة الشعوب لا تقدر بمال.. هذه الخسائر المادية يمكن تعويضها فى المستقبل، لكن الشىء الذى لا يمكن تعويضه هو الأرواح الغالية التى ذهبت فداء للحرية.. لكنها ستبقى محفورة على تراب تونس الخضراء بحروف من نور رمزاً للتضحية والفداء، الجميع ضحى والجميع سيجنى ثمار هذه التضحيات.. تلاميذ المدارس والأجنة فى بطون التونسيات لن ينسوا شهداء الحرية الأبطال، سيقيمون لهم التماثيل فى الشوارع وستبقى ذكراهم حية بين الأجيال.
لم تتوقع كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، أن يكون الشعب التونسى هو أول شعب عربى يتجاوب مع مصطلح "الفوضى الخلاقة"، لم تكن "كوندى" تستهدف تونس بل كانت تركز على شعوب دول الخليج والهلال الخصيب ومصر ومن حولها.. لقد كانت تونس آخر دولة تتمنى السيدة السمراء أن تشملها دعوتها للفوضى.. لأنهم الأكثر استقراراً وتنمية وتطوراً مقارنة بغيرها من باقى الدول العربية.. ثورة تونس الرائدة كان يمكن توقع حدوثها من دول تتمزق أو ترضخ تحت وطأة الفساد والمحسوبية والديكتاتورية والانفراد بالحكم، ولهذا كانت الدهشة من أن تنطلق شرارة الغضب العربى من تونس الخضراء!
فى ذروة الأزمة كنت فى مبنى التليفزيون على كورنيش النيل للتعليق على التطورات الخطيرة التى تشهدها لبنان.. كانت كل الأنظار تتجه إلى عروس العروبة بيروت، وكان الإعلام المصرى والعربى يضع لبنان فى بؤرة الأحداث.. لكن عندما تطورت الأحداث فى تونس بشكل سريع ومتلاحق عقب إعلان الرئيس التونسى المخلوع خطابه الثالث والأخير، استدعانى الزملاء فى قناة مصر الإخبارية فى فترة مفتوحة على الهواء.. فى البداية تصورت أن إعلامنا الرسمى سيدفن رأسه فى الرمال وسينتظر التعليمات، لكن على الهواء جرت معالجة الأمر بتوازن دقيق ومهنية عالية، فقد فتح الإعلام المصرى أبوابه لصوت الجماهير التونسية الغاضبة، وتحدث صحفيون ومحامون ومناضلون عن مطالبهم.. وكانت كل التيارات حاضرة المؤيدة للرئيس المخلوع والرافضة له.. التحرر الإعلامى الذى لاحظته فى تغطية أحداث تونس أشعرنى أنه مازال لمصر دور وإن كان خافتاً فى التضامن مع أشقائنا العرب فى مثل هذه اللحظات التاريخية الفارقة.
شكراً شاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابى الذى أظن أن أشعاره كانت وقوداً لثورة الشباب التونسى الغاضب.. كما بدأت بأبياته أجدنى أختم ببيت من قصيدته الشهيرة "فلسفة الثعبان المقدس " "لا عَدْلَ، إلا إنْ تعَادَلَتِ القوَى وتَصَادَمَ الإرهابُ بالإرهاب"!!
رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روزاليوسف
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة