فجر الثانى من أغسطس 1990 احتلّ العراقُ دولةَ الكويت، فانقسم الرأىُ العام المصرى إلى فريقين. يستند كلُّ فريق منهما إلى نصوص قرآنية تؤيد رأيه. الأول يرى أن صدام حسين بطلٌ قومى، محقٌّ فيما فعل، وأن الكويتيين يستحقون لأنهم تجبّروا بثرواتهم. والثانى يرى أن التهامَ دولةٍ دولةً، عملٌ إجرامىّ مهما تكن الأسباب. وبعد أيام كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل مقالاً بالإنجليزية فى إحدى الصحف العالمية، يبحث فيه جذور الاحتقان الذى أدى إلى الأزمة، ويقترح سُبلاً للخروج منها، فهاجمه الطرفان كلاهما. لأن كليهما انتظر أن يؤيد الأستاذُ أحدَهما دون الآخر! متصورين أن الأمر محصورٌ بين أن تؤيد الفعلَ، أو ترفضه. ولا سبيل لرأى ثالث. فالثالثُ مرفوعٌ، حسب نظرية أرسطو.
أسوأ ما فى الثقافة العربية، التى تعلّمها المصريون من الغزو الخليجىّ مع ثورة النفط، أنها تكوِّن رأيها بالإُذُن، لا بالعقل. بعد صدور رواية «آيات شيطانية» للهندى سَلمان رشدى، صدرت فتوى الخمينى بإهدار دمه راصدًا مليون دولار لمن ينفّذ، فامتلأت جرائدنا بمقالات تهاجم رشدى. فى حين أن قسمًا كبيرًا ممن هاجموه لا يقرأون الإنجليزية التى صدرت بها الرواية! ثم علمنا أن ثلاثة فقط قرأوها، والباقون ساروا فى ركب الخمينى! لستُ بصدد مهاجمة سلمان رشدى أو الدفاع عنه. فقط أُدلِّلُ على جرأتنا فى استعارة عقول الآخرين، وترداد كلامهم دون وعى. ثم نستميت فى الدفاع عما نجهل، وقد ندفع أرواحنا ثمنًا لرأى لم تنتجه عقولنا نحن! إنها ثقافة «قالوله». النقليةُ لا العقلية. حدث الشىء نفسه فى أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، فراح ضحيتها شبابٌ لم يقرأوا الرواية أبدًا، وعديد الأمثلة ذكرتها مرارًا فى مقالاتٍ سابقة!
تذكرتُ كل هذا وأنا أتابع المناقشات الدائرة الآن حول الملف الطائفى. بدايةً من جريمة نجع حمادى، مرورًا بأزمة العمرانية، وصولاً إلى تفجير كنيسة القديسيْن ليلة رأس السنة، ثم جريمة قطار سمالوط، ودون العودة بالزمن إلى مجازر الكشح والبرّ الغربى بالأقصر، وزرع قنابل فى موقف سيارات حى شعبى، وعشرات الحوادث المماثلة التى تُخجل وتقتل الروح والأمل، مما يدَّعى مرتكبوها أنهم ينتمون إلى الإسلام، وأنهم إنما يجاهدون فى سبيله!
أُسلِّطُ الضوءَ هنا على آراء البسطاء أكثر من تسليطه على مقالات الكُتَّاب. فالمقالات، اتفقنا معها أم اختلفنا، تعكس وعى المثقفين بالحال المتردية، ورغبتهم الصادقة فى إنقاذ مصر. وهم فى النهاية نخبةٌ قليلة لا تشير إلى ثقافة شعب. أما آراء البسطاء فتعكس الثقافة العامة للمصريين فى اللحظة الراهنة، تلك التى تُنذر بكارثة إن لم نعمل على تصحيح منطلقاتها.
منها مثلاً أن الكاتب حين يدافع عن حق المسيحى فى حياة كريمة على أرضه، يُتهم «فورًا» بمحاربة الإسلام وسبّ رموزه! بل مُنضوٍ تحت لواء منظمات صهيونية تحارب الإسلام! وفى أحسن الأحوال مرتشٍ، يكتب طمعًا فى أموال جهة ما! ولا ينتبه أصحابُ الآراء تلك، إلى أنهم يرتكبون الخطايا المركبة التى تُغضبُ الله، ويُنقصون من قدر الإسلام فيما أرادوا إعلاءه. فأىُّ دين هذا الذى يقوّضه مقالٌ صحفىّ؟!
ليست هذه هى المشكلة، على أية حال. فالكاتب يدفع، راضيًا، فاتورةَ رأيه ويتحمل تبعاته. لكن المشكلة أن المرءَ من هؤلاء منقسمٌ على ذاته ومشوشٌ فكرُه. ففيما يُعزّى المسيحيين فى ضحاياهم بيدٍ، يُنكر عليهم حقوقهم باليد الأخرى. وأولها حقهم فى بناء دار عبادة يذكرون اللهَ فيها حسب المنهج الذى اختاروه لأنفسهم. سبيلهم فى ذلك أن الدول الأوروبية تتعنت فى بناء المساجد، وتُحرِّم النقاب فى الأماكن العامة! ناسين أن المسيحىَّ المصرى ليس ضيفًا! ويبقى السؤالُ الغائبُ هنا: إذا كان الأوربيون يسيئون لأهلنا الذين يعيشون بينهم، فلماذا نسىء نحن (لأهلنا) الذين يعيشون بيننا؟ إذا كنا نكره الظلمَ الذى نتعرض له هناك، فلماذا نمارسه هنا؟ ولماذا لا نضرب «للغرب الكفّار الهمج» مثلاً حضاريًّا فى التعايش الراقى الرفيع؟ أغلب الظن أن البسطاء يريدون مسيحيين بلا حقوق، أو أنهم، غالبًا، لا يريدونهم من الأصل!
الدين الإسلامى ينهى عن تكفير المسلم ويحرِّم دمه، هناك أحاديث شريفة تحثنا على ذلك.
وقد عزل عمر بن الخطاب قائدَ جيوشه خالد بن الوليد حينما قتل كافرًا نطق الشهادتين فى حرب المرتدين وقت خلافة أبى بكر الصديق. لم تشفع لسيف الله المسلول انتصاراتُه وفتوحاته. لكن بعضنا يتهم المخالفَ فى الرأى من المسلمين بالكفر، دون أن يطرف لهم جفن.
والقرآن نفسه ملىء بالآيات التى تدعو إلى احترام أهل الكتاب، مثل الآية 199 من سورة «آل عمران»، إلا أننا نأبى إلا أن نروّعهم ونقضّ مضاجعهم استنادًا إلى آيات أخرى! ثم نستغرب حين يلجأ نفرٌ منهم إلى الغرب لنجدتهم! دون أن نسأل أنفسنا عن الأسباب التى تدعوهم لذلك! وما إذا كنا وفرنا لهم مناخًا آمنًا للحياة قبل أن نحاسبهم على أفعالهم.
بعد حادث العمرانية جاءنى نجّارٌ لينجز فى بيتى بعض الأعمال. هو شابٌّ تخرج لتوه فى كلية التجارة، يعمل بالنجارة لأن الدولة لم توفر له عملاً يناسب مؤهله. سألتُه: «ماذا تفعل لو كنتَ مسؤولاً عن استخراج تصاريح بناء الكنائس؟» انتفض من السؤال وقال: «طبيعى إنى أعطل الأمر لو بيدى». «لماذا؟» «لأنهم ليسوا من دينى!». صدمتُ من الحال التى وصلنا إليها! تلك التى تجعل شابًّا فى مقتبل حياته، يتقن التطرفَ ضد الآخر لمجرد اختلافه معه! وسألت نفسى: لماذا يغضبُ هذا الشابُّ إذن حين لا توفر له الدولةُ عملاً محترمًا يناسب تعليمه؟ وحين يستأثر الغنىُّ بالثروة؟ ويغترُّ الحاكمُ بالنفوذ؟ ويتجبّرُّ القوىُّ بقوته؟ أليس هو ذاتُه يشبههم حين يحتمى بأكثريته، ويتجبّر بها على الأقلية؟ لكن صدمتى الأكبر فى النظام الذى يرى مظاهر الانهيار الفكرى والثقافى جليّةً مرعبةً ثم يتعامى عنها، بل يشجعها لأغراض رخيصة يعرفها قانون الديكتاتوريات: «أن قيادةَ شعب جاهل، أيسرُ وأسلس».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة