كنت واحداً من هؤلاء الذين ينتظرون هواء يناير غير الدافئ حتى تتخلص الشوارع من حملها البشرى الزائد، وأجد طريقا أسير فيه دون الحاجة إلى الاهتمام بدراسة قوانين الفيزياء من أجل تفادى كتف امرأة تسير بأربعة عيال ورجل على رصيف عرضه متر ونصف، ودون الحاجة إلى معاناة تعلم القيادة للنجاة من أحذية من يسيرون فى الطرقات بغير هدى، بحثا عن بنت حلوة يلقون عليها الجديد من كلمات المعاكسة، أو من انشغلت عقولهم وأبصارهم بكيفية استكمال وجبة الغذاء الخاصة بيوم غد.
لهذا كله كنت أنتظر هواء يناير البارد لكى أملك الشوارع وحدى.. من أجل شربة العدس، والإحساس بكرم البطانية، ونعمة البخار الهادئ الذى يتصاعد راقصا من كوب شاى خفيف سكر زيادة، كنت أحب هواء يناير البارد ولا أخشى أبدا من أمطاره التى تؤكد مع كل شتوية أننا بلد ولكننا لسنا دولة، لأنه لا توجد دولة تغرق فى شبر ميه.
هذا عن يناير العادى.. أما هذا اليناير الذى تساقط من عمره الزمنى 48 ساعة فيبدو أنه مقدمة لعام ليس بجيد على الإطلاق، عام سنعيشه ونحن لا نجد طريقة لنهرب بها من لسعات برده المناخى والسياسى والإجتماعى، وستفشل شوربة العدس فى صد الهجمات المتتالية من الرعشات والتكتكات التى تسببها نسائمه مثلما ستفشل المعارضة المصرية فى أحداث أى فارق جديد فى تاريخ هذا الوطن، وستعجز البطانية عن الحد من برودة لياليه مثلما ستفشل الدولة فى حل أزمة البطالة والجوع، وستتوقف أبخرة كوب الشاى فيه عن الرقص، لأن الشاى نفسه يبرد قبل أن يصل إلى محطة شفتيك مثلما بردت كل القلوب وأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وإلا بماذا تفسر لى كل هذه الحوادث العائلية الإجرامية التى تنشرها صفحات الحوادث ويسيل فيها دم الأهل وكأنه ماء بارد لا عزيز يبكى عليه.
هذا اليناير مختلف وسيأتى بعام مختلف وهل هناك بداية أسوأ مما حدث فى الإسكندرية؟ هل هناك بداية لسنة جديدة تم تسميتها بالسنة المصيرية، لأنها ستقدم لنا رئيسا جديدا أو قد لا يكون؟ هل هناك بداية لهذا العام أسوأ من دماء المسيحين والمسلمين التى سالت أمام كنيسة القديسين، معلنة عن وصول شكل جديد من الإرهاب إلى مصر يهدد وينفذ دون أن يعترضه أحد؟ هل هناك بداية لهذا العام أسوأ من أن تشعر بأن وطنك على مرمى رأس سنة الدبانة لسلاح عدو لا يرحم ولا يهاجم، فقط ينثر بذور التطرف ليتركنا ننهش فى بعض ويتابع هو من بعيد لبعيد؟ هل هناك بداية للعام 2011 من هؤلاء الذين لم يفهموا بعد أن ما حدث فى الإسكندرية أمر لا يخص الأقباط وحدهم بل يخص مستقبل وطن؟.
أنا لا أرسم لوحة متشائمة للعام الجديد يا سيدى، فالعام الجديد نفسه تكفل بفعل ذلك، هذا اليناير علمنى الأدب، فلا شوارع أملكها وحدى مع أنها خالية، ولا حفلة منتصف ليل فى أى سينما لأننى أخشى مواجهة برد ما بعد الخروج من دفء القاعة وأحداثها الدرامية، حتى إحساس الأمان فقدته وأعرف أنك أيضا تفقده، وهل هناك أقسى من أن تستقبل العام الجديد وأنت تبحث عن سرير داخل مستشفى لطفلك المريض؟ ربما أكون أبا حديثا وملهوفا أو طريا ولينا، كما يقول الخبراء من الآباء، أنزعج لمجرد أن يصاب ابنى بكحة ولكن ألا تتفق معى أننى لابد أن أنزعج على الوطن بأكمله حينما أدور بطفلى على كافة المستشفيات الخاصة قبل العامة بحثا عن سرير يأويه من شدة المرض وطبيب يعالجه دون فذلكة؟، فلا أجد سوى أشباح مستشفيات وأشباح دكاترة تحولوا إلى أشخاص حقيقين بعدما ظهرت الوسطة وحلت بركة المعارف!!
مشكلتى الوحيدة أننى مازلت أثق فى يناير، ومضطر أن ألقى بمسؤلية ما حدث له هذا العام على أكتاف السادة المسئولين الذى اكتشف شهرى الحبيب أنهم "باردين" رغم سخونة الأحداث، ودمهم لا يفور ولا يغلى مهما كان عدد الذين ماتوا غرقى أو أسفل أنقاض عمارة متهالكة أو على أسفلت طريق لم يهتم المسئول عنه بصيانته أو تأمينه قدر اهتمامه بما سيسرقه من أموال الدولة، مازلت أثق فى يناير الذى قرر أن يصبح مثل هؤلاء المسؤلين بارداً.
وأخجل من تلك اللحظة التى تنزل فيها دموع الصحف والمنظمات فى أوربا وأمريكا وهى تصف أحوال المصريين فى طوابير العيش وعلى أسرة المستشفيات غير المجهزة، بينما يجلس النظام الذى يحكمنا متكئا على أكبر قطعة ثلج فى الجانب الأيمن من أكبر "ديب فريزر" عرفته البشرية باردا وساقعا بلا إحساس وبلا طعم.
لن أعاتب يناير هذا العام، لأنه قرر أن يصبح مثل السادة المسئولين.. فقط سأدعو على من طمعوا هذا اليناير فينا مثلما طمعوا طفيليات العالم فينا، سأدعو على الذين جعلونا نستقبل العام جديد بالدم والقلق والخوف، وأقول إن كانت المزيد من النيران كافية لإنقاذنا من برد يناير فإنها أيضا كافية لإنقاذنا من برودة السادة المسؤلين.. فقط إن أشعلناها!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة