القراءة العكسية للثورة التونسية تكشف عن تأصيل جديد للفقه السياسى الذى عاصرناه على مدى عدة قرون، وانقلاب فى مفاهيم مستقرة لدى النخبة العربية الحاكمة لم تكن واردة من قبل.. تونس لم تكن المحطة الانقلابية الأولى، ولا أتصور أيضا أنها ستكون الأخيرة، فقد سبقتها بغداد وسوف يتبعها عواصم عربية أخرى شئنا أم أبينا.. لكن النموذجان يناقض بعضهما البعض، ففى بغداد هرب الجنرال الحاكم ليدير ربما معركته بحسابات أخرى فى مواجهة محتل أمريكى وخيانة قيادات الجيش، لكنه لم يطلب العفو والرحمة وهو يجرى تجهيزه للذبح فى عيد الأضحى بأيد إيرانية وشيعية عراقية كما تبين لاحقا وتحت مظلة أمريكية، لم يهرب فوق إحدى طائراته أو سفنه الحربية وسواء اختلفنا أم اتفقنا فقد جعل من لحظات اختفائه أسطورة نترك الحكم عليها للأجيال القادمة بعد أن يهدأ غبار المنطقة فربما تتناقلها الأجيال العربية كدرس مستقر فى الوجدان السياسى بغض النظر عن تقيمنا لمنهجه كديكتاتور عربى ـ ليس بالأخير ـ لكن المشهد التونسى كان أكثر خسة فهو مزيج من الخيانة المضاعفة.. خيانة الجنرال الحاكم لشعبه بالهروب المهين هو وأسرته، ثم خيانة حرسه الرئاسى كما تتداول التحليلات الغير مؤكدة حتى الآن، شتان بين جنرال يهرب داخل بلاده ليُأسر كجندى مقاتل ويعامل كمجرم حرب بفعل قوى احتلال فاشية، وآخر يرتحل تاركاً شعبه تنهشه عصاباته المأجورة مثل جرذان السفينة التى تفر هرباً للنجاة لحظات الغرق.. والمؤكد أن ترتيب المشاهد فى العالم العربى منذ أحداث سبتمبر كان ينذر باجتياح غير مسبوق لكل الأنظمة العربية التى استندت طوال حكمها إلى قوى خارجية تزور لها شهادات حسن السير والسلوك ما جعلها تنفض شعوبها خلف ظهرها تاركة الغطاء الشعبى يذهب إلى الجحيم رغم أنه المبرر الحقيقى الوحيد وليس المزيف لبقائها فى سدة الحكم.. درس سبتمبر لم يستوعبه كثيرون ودروس الأزمة المالية العالمية ذهبت هى الأخرى أدراج الرياح، وبقيت الأنظمة الحاكمة فى العراء دون شعوبها التى تجرعت السحل والسجن والتعذيب والقمع والقتل وكل أصناف العذاب بشهادات ـ أيضاً ـ دولية ولم تعد ترى خيط أبيض من بين كؤوس المرارة التى تجرعتها.. والغرب بدوره لم يقصر بل شارك على أكمل وجه عندما أدار وجهه كى لا ينظر لآليات قمع الشعوب طالما أن الأموال المنهوبة تصب فى نهاية الأمر فى بنوكه وخزائنه حتى ما أن جاءت اللحظة المناسبة يعلن تجميد الأرصدة التى لا يعلم عنها أحد شيء سوى سارقها وبالطبع من تستر عليه.. إذاً فالإعلان الفرنسى والسويسرى وكل إعلانات الطهارة المالية المتدفقة فى بيانات الأنظمة الغربية هو فى باطنه استيلاء على ما نهبته الأنظمة الهاربة واستكمال للدائرة الخبيثة وتكريس لمبدأ تسديد الشعوب للثمن مرتين وثلاث وأكثر إن لزم الأمر.
لكن أخطر ما يمكن أن يهدد سلامة التحليل السياسى هو الأخذ بالمسلمات والأعراض الظاهرية.. ومن قرأ أوراق التاريخ يجيد فن الحذر من الاستنتاجات النهائية التى تكتب بينما السطر الأخير من الأحداث لم يجف حبره بعد.. وأتصور أيضاً أنه من السذاجة ـ وهنا أسبح ضد التيار ـ أن نربط بين انهيار بن على وانتحار بائع خضراوات حرقاً لدواعى وأسباب اقتصادية.. فهو ربط يعيدنا إلى جدل سفسطائى عمن يحرك التاريخ هل هى السياسة أم الاقتصاد.. وفى اعتقادى أن كليهما أداة من أدوات السيطرة وليس فاعلا بحد ذاته، وأن كلا منهما يجرى استخدامه بدرجات متفاوتة وفى أزمنة متفرقة لإدارة الصراع السياسى داخل وخارج الدولة... التأنى فى تحليل المشهد التونسى يؤكد أن الأداة المستخدمة لإدارة الصراع كانت خليط مابين الاثنين، فالاقتصاد فجر الشرارة وتلقتها السياسة لتوظيفها بأدواتها التى كان الجيش والداخلية والأمن الرئاسى أبرزها وتغليف كل ذلك بصمت دولى يشبه الرضاء التام عن ما جرى فى تونس الخضراء، بل وتحولت ماكينات الدعاية الغربية فى حركة التفاف مريبة لتشجب وتدين وتفضح هى الأخرى نظام "بن على" الذى مجدت قدرته من قبل على قمع قوى التطرف الإسلامى وزينت له سوء عمله فى التنكيل بقوى وأطياف المعارضة وتكميم أفواهها.. لنسقط فى المشهد النهائى بين رهانين الأول يراهن على سقوط كل الأنظمة العربية فى القريب العاجل بفعل ثورة شعبية مماثلة وانتفاضة الشارع العربى من المحيط للخليج، والرهان الثانى يرى استحالة تكرار النموذج التونسى مجدداً وأنه حادث استثنائى فى التاريخ لن يلبس أن يصحح مساره ويعود إلى رشده.. ولو تابعنا كافة التحليلات والكتابات سنكتشف أنها رهانات خاسرة لكلا الطرفين وأنهما ليس أكثر من عرائس مارونيت يجرى التلاعب بها فى كلا الاتجاهين لتحقيق الفوضى الخلاقة لصالح كيان أكثر نازية من كل العملاء العرب.. تونس وأخواتها فى السودان واليمن وبغداد والإسكندرية وكل من سيرد ذكره مستقبلا هم مجرد قنابل دخان لُتعمى القلوب والأبصار والبصائر.
• كاتب صحفى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة