إذن هى الدعاية الخبيثة ووسائل الإعلام الموالسة والحبوب نافخة العضلات التى صورت لنا هذه الحكومة أو هذا النظام على أنه قوى لا يقهر، جبار لا يسقط، دائم لا يرحل، خالد لا تجرؤ ملائكة الموت على الاقتراب من روحه.
هى إذن حقن "البوتكس" وعمليات الشفط والشد التى جعلت ذلك النظام يبدو شابا، وأخفت معالم الشيخوخة التى تنضح بها كل مؤسساته، وأزالت بعضا من ملامح العجز وقلة الحيلة التى بدت واضحة للعميان قبل أصحاب البصر نهار وليلة 25 يناير.
48 ساعة فقط كشفت المستور وعرت كل ماهو متغطى، وأزالت كل مساحيق التجميل عن الوجوه الضعيفة والمرهقة والقبيحة، وأزالت تأثير هرومونات النفخ السياسى والأمنى التى كانوا يتعاطونها طوال السنوات الماضية لتصدر صورة النظام الشاب الذى يستحق البقاء لمدد زمنية أخرى، دون أن يقول له أحد كفاية أو حتى حرام.
48 ساعة فقط ارتبك فيها النظام وارتعدت فيها المؤسسات واختفى خلالها الوزراء والمسئولون عن الأنظار ولم يجرؤ أحدهم على مواجهة الغاضبين فى الشوارع، كشفت عن رعب حقيقى يعيشه أهل السلطة فى مصر، ربما لأنهم لم يتوقعوا يوما أن يخرج الغضب الكامن فى صدور المصريين إلى الشارع، أو لأنهم تخيلوا أن محاولات إخصاء الشباب وحركات المعارضة والأحزاب التى بذلوا جهدا فى إتمامها خلال السنوات الماضية ستحميهم من غضبة جماعية لا طاقة لهم بها.
ضغط أهل السلطة على الناس فى الشوارع وحاربوهم فى قوتهم وحريتهم ومستقبل أولادهم، لم يحترم النظام ورجاله رغبات أهل الوطن فى التغيير أو على الأقل اختيار مسئولين ووزراء يحترمون كرامتهم وأحلامهم بدلا من إهانتها بالتصريحات الساذجة أو الشتائم المبطنة مثلما يفعل عز وزكى بدر وغيرهما.
كان الاستعلاء هو شعار الدولة فى مواجهة هؤلاء الغلابة والمطحونين، كلما انتفض الناس واشتكوا من قلة الأجور وارتفاع الأسعار يخرج كل مسئول ويرفع "مناخيره" لأعلى ويقول للناس "احمدوا ربنا ان مصر فيها طرق وصرف صحى وكبارى"، وكأن الدولة تتفضل علينا بأكذوبة البنية التحتية التى تنهار بعد شهر من افتتاحها ومحور صفط بل وطريق محور يوليو نفسه خير شاهد على ذلك.
كلما شكى الناس فى مصر يرد عليهم النظام بصور للضربة الجوية وأوبريت عن المستقبل الملون وصور لمستشفيات جميلة فى عدسة الكاميرا ولكنها بلا أسرة ولا تقبل سوى من يدفع كاش، والموت إهمالا داخلها أكثر من الموت القادم على يد عزرائيل، كلما شكى الناس يفعلون ذلك ويأتون بصور مصر من 30 سنة ويقولون انظروا كيف كان البلد وكيف أصبح؟ ويعددون الكبارى والطرق ومواسير الصرف الصحى وكأنهم يعايرون مصر بما هو واجب عليهم فعله، ولم يفعلوا منه سوى القليل أو أقل القليل إن شئنا الدقة.
الاستعلاء هو سر الغضب الأكبر، فالمصريون دوما لا يحبون الحكومات التى لا تحترم كرامتهم، أو تدوس على عزة أنفسهم، ولا يحبون الحكام الذين يتعاملون معهم بمنطق "اخبطوا دماغكم فى الحيط" فلن أخرج لأجيبكم أو أرد على مطالبكم إلا حينما أريد أنا ذلك، هذه هى خطيئة النظام الكبرى، لم يفهم أهل المحروسة ولم يكلف نفسه عناء الرد أوحتى الاستجابة إلى بعض من رغبات الناس، بل على العكس تماما أخفوا خوفهم واستعلاءهم خلف اتهامات التخريب والشباب المضحوك عليه وتلك الأسطوانة المشروخة التى لم يعد أحد يصدقها.
ما حدث فى الساعات الأخيرة ليست ثورة عفوية ولا انتفاضة ناتجة عن شحن عاطفى من تيار سياسى معين، ماحدث هو نتاج استعلاء واحتقار رسمى مارسه هذا النظام ضد المصريين، فلا شىء نجح فيه النظام أكثر من العزل.. عزل نفسه عن الناس وربما كان هذا هو المشروع القومى الوحيد الذى نجح فى إتمامه بشكل كامل وبشكل يختلف عن بقية المشروعات التى يتضمنها برنامجه منذ الثمانينات ولا تكتمل أبدا، استطاع أن يحقق الكمال فى مشروع عزل نفسه عن الشعب المصرى مستخدما تلك الحيلة القديمة "لا أرى ، لا أسمع ، لا اتكلم"، وعلى سبيل الابتكار ساهم النظام فى تطويرها كثيرا حتى أصبحت " لا أرى إلا ما أريد ، ولا اتكلم إلا بما أريد، ولا أسمع إلا ما أريد ".. النظام على مدار 30 سنة من الجلوس على أنفاس مصر لا يسمع إلا ما يريد أن يسمعه ولا يستجيب إلا لما يوافق هوى نفسه أو يأتى على مزاجه، يتعرض لكل الضغوط الممكنة داخلية وخارجية وذاتية ومع ذلك لايستجيب لشىء، إلا حينما يتحرك مؤشر مزاجه نحوه، ورغم رحلة البقاء الطويلة التى قضاها النظام الحاكم ومازال يقضيه بين المصريين، إلا أن شعب النيل العظيم فشل بشكل واضح فى فك الشفرة الإنسانية لهذا النظام ورجاله وتحديد تلك المناطق التى يحملها كل إنسان طبيعى بداخله ويمكن اختراقها أو الدخول إليه من خلالها لدفعه نحو الاستجابة إلى طلب معين..
المصريون فشلوا فى تحديد تلك المنطقة الخفية، النظام يستجيب لمطالبهم، فشلوا فى ابتكار تلك الطريقة العبقرية التى تجبر النظام أو على الأقل تجعله يتواضع ويتكرم وينفذ جزءا واحدا من مطالبهم، الكائن البشرى الطبيعى قد يستجيب لمطالب من أمامه إذا بكى ونحن بكينا كثيرا ولم يبك أحد من قادة النظام، الإنسان الطبيعى قد يستجيب إذا توسل إليه أحد ونحن توسلنا كثيرا ولكنه لم يستجب، المسئول قد يستجيب لمطالب من يعملون تحت يده إذا أضربوا واعتصموا ونحن أضربنا واعتصمنا نحن وآباؤنا ولكن أحدا لم يستجب..
المسئول قد يستجيب لمرؤوسيه ويحقق مطالبهم إذا قاموا بكشف وفضح فساده ونحن فضحنا فساد نصف مؤسسات الدولة بالأوراق والمستندات ولكنه لم يستجب أيضا، صاحب العمل قد يستجيب لمن يعملون عنده إذا تظاهروا وهتفوا ضده ونحن تظاهرنا وهتفنا حتى انقطع آخر حبل صوتى نملكه ومع ذلك لم يستجب، الأب قد يستجيب لأطفاله ورغباته كنوع من العطف والحب والنظام الحالى يصف نفسه بالنظام الأبوى ومع ذلك لم يستجب لمطالب أى مصرى..
الإنسان الطبيعى يستجيب تحت الضغوط المختلفة خاصة لو جاءت من قوى كبرى أو بإلحاح مستمر ونحن ضغطنا على النظام وألححنا عليه حتى طلعت أرواحنا وأيضا لم يستجب، بل والعالم كله ضغط على النظام وطالبه بشكل متكرر بالقيام ببعض الإصلاحات ولكن أحدا أيضا لم يستجب وكأنهم يعيشون فى بلد آخر.. فهل تفلح انتفاضة يناير فى أن تغير تلك المعادلة؟ هل يكون لها السبق فى إحداث ذلك التغيير؟ دعنى أقول لك إن كل هذا الوهج وكل هذا الحماس الذى بدا على ملامح الشباب فى وسط البلد وكل هذه الشجاعة وكل هذا التفانى الذى ظهر فى السويس والإسكندرية، وكل هذا الكوكتيل البشرى الذى نزل إلى الشوارع دون أى تحريض، قادر على أن يحدث الفارق، قادر على أن يجبر تلك الأرجل المرتعشة على الرجوع والاستجابة حتى وإن لم ينجح فى ترحيلها.