قبل أيام تلقيت مكالمة تليفونية من الزميلة النشيطة يمنى مختار، دعتنى خلالها بشكل مفاجئ لتناول العشاء مع النجمة يسرا والفنان أحمد عز.. ترددت قليلاً قبل الرد على الدعوة والسبب أننى أقرب إلى أهل السياسة من أهل الفن وخبرتى محدودة فى التعامل مع نجوم الوسط الفنى.. توقعت أن تكون الدعوة جزءاً من تحقيق صحفى مثير أو تجربة إنسانية غير تقليدية.. دفعنى فضولى لقبول الدعوة وكسر حاجز التردد.
فى الموعد المحدد من ذلك المساء توجهت إلى الفندق الشهير على كورنيش النيل، وهناك وجدت حشدا من الصحفيين ومندوبى الفضائيات.. بالطبع لم يكونوا فى انتظارى بل يترقبون بلهفة وصول يسرا وعز.. فى هذا الوقت انتهزت الفرصة للتعرف على مزيد من المعلومات عن سر تلك الدعوة الغامضة من صاحبتها التى رفضت أن تكشف لى عن مزيد من التفاصيل وأنها تُفضل أن أنتظر دقائق لأكتشف بنفسى كل شىء، ثم قدمتنى إلى شابة جميلة اصطحبتنى إلى قاعة العشاء.. هناك استقبلنى شاب آخر فوجئت أنه كفيف.. رحب بى مبتسماً وقال: أنا عباس ويسعدنى أن أكون فى خدمتك على العشاء، ثم أخذ بيدى متوجهاً إلى باب غرفة يؤدى إلى غرفة أخرى حالكة الظلام.. وأجلسنى على مقعد قائلاً سيشاركك على الطاولة من اليمين الزميلة يمنى مختار وعلى اليسار عبد الله كمال.. للوهلة الأولى شعرت بانقباض.. تأكدت بأن يمنى فعلاً على يمينى عندما ضحكت وسألتنى عن رأى فى تلك المفاجأة، ثم رحبت بجارى الآخر ساخراً منور يا أستاذ عبد الله.. من بعيد شق الظلام صوت ضعيف خافت.. أنا كفيف.. كان رده مؤثراً.. لحظات معدودة وبدأت التكيف مع الظلام.. بدأ عبد الله كمال بمنتهى التلقائية فى تقديم نفسه.. فهو من قرية شبين القناطر وتلميذ فى مدرسة طه حسين للمكفوفين بالمرج وعمره عشر سنوات وأصغر شقيقاته الثلاث، ويعشق ويمارس كرة القدم بعلبة "كانز" مع زملائه فى فناء المدرسة، يحب الأستاذ جرجس مدرس الرياضيات ويحفظ 6 أجزاء من القرآن الكريم، وإيمان كبرى شقيقاته الأقرب إلى قلبه.. هنا اخترق صوت يسرا الصمت والظلام.. الله عليك يا عبد الله، ثم تبعها أحمد عز طالباً منه الاسترسال فى الكلام.. هنا عرفت أننى لست وحدى عندما طلبت الإعلامية بثينة كامل أن أستمر فى الحوار مع عبد الله، فى حين شاركتنى الزميلة العزيزة نجلاء بدير الحوار مع عبد الله الذى خطف الحديث بالرغم من وجود رحمة ومحمد ونجيبة ومصطفى.. كانوا جميعاً معنا فى نفس الغرفة وهم بالأساس زملاء عبد الله ورفاقه فى محنة فقد البصر.
تجربة مثيرة وثرية للغاية أن تدخل غرفة وتترك على بابها أغلى شىء يملكه الإنسان وهو البصر.. فرغم تعدد وتنوع سلوكيات وأنماط العشاء لم يخطر على بال أحد منا أن يتناوله فى الظلام لكن بحديث عبد الله وحكاياته الممتعة تأقلم الجميع مع الواقع الجديد.. وتجاذبنا أطراف الحديث فدخلنا فى نقاشات طريفة خاصة بعد اكتشاف مواهب عبد الله المتعددة تباعاً.. يسرا اندهشت عندما غنى بصوته الجميل مقدمة مسلسلها "قضية رأى عام" وتفاعلت معه بحماس.. زملاؤه شعروا بالغيرة فتباروا فى الغناء مع يسرا وبدأ بعضهم يطرق على الطاولة بإيقاعات منتظمة حتى شعرت أن القاعة المظلمة أوشكت أن تنير من الفرح والبهجة التى ملأت كل أركانها.. بثينة كامل فاجأت كل واحد من الحاضرين بسؤال عن حلمه.. الجميع تبارى فى استعراض أمانيهم..عبد الله تمنى أن يكون مدرساً للغة العربية مثل أغلب رفاقه، بينما يسرا تمنت أن ينتهى الفقر ويختفى تماماً من مصر والعالم، فيما تمنى أحمد عز أن يقدم عملاً فنياً لا يُنسى ويترك بصمة لدى جمهوره، ثم تنوعت باقى أمنيات الموجودين فى القاعة ما بين الحرية والمساواة والديمقراطية.. تحول الطفل النحيل عبد الله كمال إلى نجم العشاء بلا منافس رغم وجود نجوم الفن والإعلام ورفاقه الآخرين، فكم كان صوته عذباً شجياً بتلاوته لآيات من سورة البقرة.. وسريعاً مرت ستون دقيقة شعرت خلالها أن للظلام فوائد جمة أهمها أنه يلغى المسافات، ويذيب الفوارق، ويساوى بين البشر، ويُطلق العنان للخيال ليُحلق بعيداً ولو قليلاً.
أتنبأ أن يتفوق عبد الله كمال كفيف البصر قوى البصيرة على الكثير من أمثاله المبصرين، وأدعو الأثرياء والقادرين على دعم مدارس المكفوفين وتبنى الموهوبين منهم حتى نخفف عن هؤلاء الأطفال قسوة الظلام ونساعدهم فى الاندماج والإبداع لعلنا نعثر بينهم على طه حسين جديد يعبُر بنا من الظلام إلى النور ويقودنا إلى نهضة علمية حقيقية بعد تعثرنا الطويل.. هذه التجربة الإنسانية المفعمة بالمشاعر المرهفة ذكرتنى بالدرس الذى تعلمناه فى الصغر، عندما ذهب رجل إلى الفاروق عمر يشكو إليه الفقر فسأله عمر كم تدفع لو سَلبت منك نظرك فتلعثم الرجل.. فقال له عمر اذهب فأنت ببصرك من الأثرياء.
* رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روز اليوسف .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة