كانت آخر المحطات التى ذهبنا إليها لنشر فكرة الوسطية حسبما أشرت فى مقالى الماضى هى «الجزائر»، صفحة من تاريخ الجزائر كتبت بالدماء والأشلاء والضحايا والشهداء، دفعت تلك البلدة ثمنا باهظا لاستقلالها مليون شهيد ويزيد، ودفعت أكثر من عشرة آلاف قتيل فى فتنة ألمت بها بحثا عن هويتها وتمسكا بقيمها فى أواسط التسعينيات بعد إقصاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ وما تبع ذلك من فتنة عمياء تلبست فيها الحقائق وقتل خلالها من قتل وفقد أيضا من فقد، وتلامست الاتهامات بين الأجنحة العسكرية فى الجماعات وفى الجيش، أطل فيها دعاتها.. دعاة الفتنة وفقهاؤها، نعم.. فللفتنة دعاة هم على أبواب جهنم، فتاوى مشهورة معروفة السند والمنبت أباحت القتل والذبح، قُتل علماء أطهار ودعاة ما عرفوا غير الدعوة لدين الله، قُتل قادة فى أحزاب ذات مرجعية إسلامية، قُتل أبرياء كُثر!! ماعرفت أهاليهم لمَ قُتلوا وبأى ذنب؟
التقيت على هامش الندوات والزيارات بإخوة عادوا من الجبال قريبا بعدما قضوا بها عقدا ونصف، فى خصومة غريبة مع مجتمعهم فى الجزائر! سمعت منهم الكثير عن تلك التجربة المريرة كالعلقم، رغم ملامح النور التى بدأت تعرف طريقها بعد سواد رسم قسماته على تجاعيد الوجه وملامحه، فقد كان قانون الوئام الوطنى طوق نجاة للمجتمع الجزائرى وحافزا مهما جدا لطى صفحة ملطخة بالدماء ونسيانها بما فيها.. بكل ما فيها. بينما كنا على طاولة عشاء فى بيت أحد الإخوة فى الجزائر العاصمة، همس صاحب البيت فى أذنى »سمعتك أمس فى الندوة تتحدث عن قانون الوئام الوطنى، هل تعرف أن دوائر فى السلطة استفادوا من القانون أكثر من غيرهم »لاحظ المضيف اندهاشى فاستطرد »نعم.. هناك ملاحقات لبعض الضباط عن مسؤوليتهم عن حوادث قتل جماعى أو فقد بعض الشباب أو العوائل جاء قانون الوئام لينقذهم من المساءلة« لكن حتى لو صدق هذا الصديق الجزائرى يبقى فضل قانون الوئام لأنه ضمد جراحات كثيرة وحقن دماء والأهم أنه دعم جهود الاستقرار للمجتمع«.
حاصرتنا فى الجزائر أيضا على هامش الندوة الدولية التى انعقدت هناك حول الوسطية ودورها فى تحقيق السلم الاجتماعى، اتهامات كثيرة ترددت غير مرة منذ وُلد المنتدى العالمى للوسطية كفكرة عام 2004 فى العاصمة الأردنية عمان وكواقع فى 2006، عن علاقة المنتدى أو تيار الوسطية عموما بالحكومات ودورانه فى فلكها كبديل للجماعات الإسلامية، ووصلت الاتهامات لحد التآمر واستخدمت معه نظرية المؤامرة وانطلاق منتدى الوسطية لأهداف ومرام أمريكية؟!
والحق أن تلك الاتهامات وصلت لحد السُخف فى مطاعنها فى النوايا والقلوب والإخلاص، ربما ساهم فى ترديدها خُلف تنظيمى، فوجود عدد ممن كانوا ينتسبون لجماعة الإخوان سابقا فى صدر قيادات المنتدى العالمى للوسطية بالأردن ربما ساهم فى ترديد إخوان الأردن اتهامات من هذا النوع، وسط وساوس اعتبار حركة الوسطية بديلا لهم دعما من الأنظمة هكذا انسابت الاتهامات من مشكاة الإخوان.
لكن هذا لا يبعدنا عن بعض الملاحظات التى يمكن أن تُعد من النقد الذاتى التى يجب أن يستفيد منها القائمون على شأن المنتدى العالمى للوسطية بل وكل العاملين فى منظومة تيار الوسطية وإن تعددت تشكيلاتهم، وأُشهد الله أنى ما وجدت فيهم غير الإخلاص والتجرد للفكرة.
أهم هذه الملاحظات هو ما يتعلق بممارسة بعض القيادات الكبيرة التى التحقت بجماعة التأسيس ما يعد »برجماتية« أو »انتهازية شخصية« أو استغلال مثل هذه المنابر لأغراض خاصة وهو أمر يتكرر فى مثل هذه الأحوال وفى ولادة كل الأعمال الكبيرة، فقد التحق بجماعة التأسيس معنا فى العاصمة الأردنية عمان أحد أبرز الشخصيات الدينية من عاصمة عربية كبرى شغل منصبا حكوميا كبيرا سابقا اشترك فى المناقشات والمداولات والصياغات، ثم طلب فى أحد الاجتماعات تأخير الإعلان عن هذا المنتدى لأن الشيخ يوسف القرضاوى يعكف على تأسيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، حاولنا إفهامه أن مشروع المنتدى لا يتعارض مطلقا مع ما أشار إليه؛ لأنه يضم فى صفوفه علماء ودعاة ومفكرين ورجال إعلام وصحافة وباحثين بينما الاتحاد يعنى بأمر الفتوى ويضم علماء الدين فقط، وبعد وقت قصير رأينا صاحبنا وقد ذهب إلى عاصمة عربية خليجية ترأس فيها مركزا عالميا للوسطية بذات الأفكار والأهداف والمرامى غير أنه يتبع حكومة تلك الدولة ووزارة الأوقاف بها؟! ومشى بالنميمة بين أعضاء المنتدى يفسد ذات البين بينهم حتى أذهب الله منصبه وأحبط عمله وأُقيل من منصبه وسط احتجاجات برلمانية فى بلد المركز إياه!!
وشخصية أخرى مصرية ذائعة الصيت لديه علاقات وثيقة بالنظام ومؤسساته الأمنية فى بلده بل وفى كل البلدان العربية خاصة الخليجية حضر الاجتماع التأسيسى الأول وشارك فى أعمال المؤتمر العام الأول حتى انتهى إلى تسمية هيئة مكتبه فلم تُعجبه تلك الأسماء وليس بها مريدوه حتى أرسل للصحف نفيا لعلاقته بذاك المنتدى، بل وراح يُشكك فيه وفى نوايا القائمين عليه.
يحتاج الإخوة فى المنتدى العالمى للوسطية لزيادة جرعة الشجاعة فى أدبياتهم، فإذا كنا نكافح التشدد والتطرف والعنف والخروج على المجتمعات الإسلامية وندعم الوسطية والاعتدال، فالأمر لا يحتاج أبواقا جديدة تضاف إلى المؤسسات الدينية الرسمية التى ما فتئت تقوم بهذا الدور وتشجب وتستنكر أى عملية عنف هنا أو هناك وتصمت تماما عن نقد الحكام أو الحكومات، عمل المؤسسات الشعبية يختلف ويلزم سعيه لضمان رضا الله سبحانه ثم ثقة الناس المكلومين المطحونين الذين يفتقدون أجواء الحرية.
وحتى يتحرر دعاة الوسطية فهم فى حاجة أيضا لوسائل بديلة للإنفاق غير الدعم الحكومى، وهنا واجب على الأثرياء المسلمين ورجال الأعمال أصحاب الدين أن يدعموا تيار الاعتدال.
لقد أسسنا فى القاهرة فرعا لمنتدى الوسطية منذ عام طرقنا كل الأبواب لفرشه وبعض مصروفات إدارية لازمة لإدارته، لكن أصحاب الأموال ضنّوا بأموالهم فى الوقت الذى قد يدفعون أرقاما كبيرة جدا لكن على شاشات التلفاز فقط ليتحدث الناس عنهم.
إن الوسطية خيار حقيقى لأى مجتمع يرغب فى تحقيق التنمية والاستقرار والأمن واسترداد الهوية الثقافية والدينية بخلفية النسق الحضارى للإسلام، إن الوسطية هى الدين.. هى الإسلام.. هى التدين والسلام.. هى العروبة والإخاء والتقوى.. هى رفض الاحتلال ودعم حركات المقاومة والتحرر الوطنى فى بلادنا العربية والمسلمة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة