وسط الحلكة الدامسة، يبرقُ شعاعُ نور بين الحين والحين، ليؤكد أن النورَ هازمٌ الظلام وكاشفُه، وإن شحَّ ونَدُر، رغم الأحد الجحيمى 9 أكتوبر الذى شرخ قلبَ مصر، فإن حدسًا، ربما فانتازيًّا، يُنبئنى أنها آخر الكوارث، وأن الجمال والحبَّ والسلام قادم، بإذن الله. الشبابُ المسلمون يحتشدون بالمئات لصلاة الغائب على شهداء ماسبيرو أمام الكاتدرائية، والمسيحيون يحمون ظهورهم، مثلما اعتدنا أن نرى خلال ثورة يناير، وما تبعها من جمعة إثر جمعة. وقبل الواقعة، شارك الأقباطُ المسلمين افتتاحَ مسجد بقرية «أبوشوشة» بقنا. وبعد الواقعة، حثَّ الأب «مكارى يونان» أبناءه المسيحيين على الغفران، قائلا فى عِظته: «اللى هيكره اللى ضربه أو شتمه أو قتل ابنه هيخسر أبديته، وهيخالف تعاليم الإنجيل، «أمال نعمل إيه يا أبونا؟» «واحنا صايمين الصوم اللى قررته الكنيسة كلنا نفتكر كلام الإنجيل، ونحب اللى عملوا معانا أى حاجة وحشة: «أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مُبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم».
تلك وقائعُ تثبت طبيعةَ نسغ الشعب المصرى الحق. أما مَن خرج ليهتف فى الناس: «منبقاش رجالة لو محرقناش كل كنائس إمبابة»، أو أولئك الذين تجمعوا طيلة 22 ساعة يهدمون كنيسة صول، أو ذلك المحافظ الذى أخذته العزة بالإثم فأبى أن يعترف بجرمه وجُرم «شبابه» الذين أحرقوا كنيسة أسوان، فعلينا أن نضعهم فى حجمهم الحقيقى ونقول إنهم من سكان مصر، وما أكثرهم، ولكنهم غير مصريين. فالجنسية ليست بطاقة وسجلات وأوارق، بل وطنيةٌ وانتماء وحبٌّ وأصالة وعِرق. وكل ما سبق من قيم موجودةٌ فى المسلم الرافض مذبحة ماسبيرو وكل ألوان العسف ضد المسيحى، مثلما هى موجودة فى المسيحى الذى يسامح ويغفر ويخاف على استقرار مصر.
«القانونُ هو الحدُّ الأدنى للأخلاق، أما الضميرُ فالحدُّ الأعلى. القانونُ حدوده ضيقة، لأنه يحكم على الأعمال الظاهرة التى عليها دليلٌ ماديًّ يُثبتها، أما الضمير فيحكم على الفكر ومشاعر القلب التى لا يصل إليها القانون. لذلك حسنًا أن تهتم سيادة الرئيس بالتعليم الدينى.
اقترحُ ألا يكون مجرد نصوص، إنما طرح روح الدين أكثر من منطوقه. الدين كحياة يمتصّها الإنسانُ لا معلومات يحشو بها فكره. يقول الإسلام: «الدينُ المعاملة» نريد أن يحيا الناسُ الدينَ لا أن يحفظوه وحسب. الدينُ يملأ قلوبَهم ويعيش فى حياتهم ويعلمهم الحبَّ والاتضاعَ والتسامح، والفضيلةَ. فأسوأ ما يأخذه الناسُ عن الدين ظنُّ المرء أن الدينَ هو التعصّب، وأن محبته لدينه تعنى كراهية الأديان الأخرى ومحاربتها. المتدينُ هو الذى يحب الجميع. أذكرُ عبارة الرسول الجميلة: «استوصوا بأهل مصر «الأقباط» خيرًا، فإن فيهم نسبًا وصهرًا» وكذلك: «من آذى ذميًّا فقد آذانى» وأذكرُ فى سماحة الإسلام عهودًا ومواثيقَ للمسيحيين فى كنائسهم ورهبانهم وأملاكهم وأرواحهم. أذكرُ أن المحبة جمعت بيننا ثلاثةَ عشر قرنًا من الزمان ويُضرب بنا المثل فى التعايش السلمى «من خطبة البابا شنودة أمام الرئيس السادات إثر محنة طائفية آنذاك». ويعودُ يؤكد موقفه الثابتَ، بعد أكثر من ثلاثة عقود، للسفيرة الأمريكية قائلاً: «إحنا عايشين مع بعض من قرون وأصبحنا نهرا واحدا».
حين قال الشيخ أحمد النقيب: «لا يجوز قول إن المسلمَ أخو المسيحى»! حزنتُ وسألتُ نفسى: «ألا يعلم هذا أن الكلمة الطيبة صدقة؟!» وفى غمرة حزنى، يكلمنى الإعلامى الصديق لطيف شاكر من أمريكا قائلا: «النقيب معه حق، فالمسلمُ ليس أخى، بل شقيقى من نفس أمى/الأرض، وأبى/الوطن.» ويقول الشيخ ياسر برهامى: «إن المسيحى كافر!» والحقُّ أنه كافرٌ بالإسلام، مثلما المسلمُ كافرٌ بمعتقد المسيحيين، وكلاهما مؤمنٌ بالله حسب تصوره. ما الفرق؟ الفرق أن المسلمَ المتطرفَ يجهرُ بكفر المسيحى، بينما المسيحى فى حاله، مشغولٌ بعقيدته ولا يزج بأنفه فى عقائد غيره. والفرق الأخطر، أن المسلمَ المتطرف يحمل سيفًا وصوتًا جهوريًّا، بينما المسيحى صامتٌ، لا يحمل إلا الخوفَ من القادم.
حكى لى صديقى جرجس عن أبيه الذى استُشهد فى حرب الاستنزاف، فدفنوه فى مقابر الشهداء بالغفير ظنًّا منهم أنه مسلمٌ، لأن اسمه «فوزى كامل إبراهيم». ولما عرفوا، عرضوا على أهله نقله إلى مدافن المسيحيين، لكن أهله رفضوا، فكان المقرئ يأتى ليقرأ عليه من القرآن، ثم يأتى القسُّ يُصلّى صلاتهم.
«مهما عملتوا هنفضل واحد مصريين»، عبارةٌ رفعها أهالى شبرا فى صلاة الجمعة. وكالعادة، صنع المسيحيون جدارًا بشريًّا يحمى أشقّاءهم المُصلين. وفى خطبة الجمعة أعلن الإمامُ الشابُّ المستنيرُ تضامنَ المسلمين مع المسيحيين فى مواجهة الفتنة الطائفية والعنف، لكى نرسل جميعًا، كمصريين، رسالةً شديدة اللهجة إلى أعداء الوطن: «أننا متماسكون ويدٌ واحدة.» بعد الصلاة، وقف المسلمون مع المسيحيين يرنّمون فى حب مصر قائلين فى صوت واحد: «محدش هيقدر يفرق بيننا». آمين.