صديقى ابن مصر البار، كما كنا نناديه، سعد زغلول فؤاد هو أسطورة مصرية تستطيع أن تحتل مائة كتاب. ولكننى هنا أريد أن أشير إلى حادثة مبكرة له، ولم أكن قد تعرفت إليه بعد. وكان سعد زغلول فى بداية العشرينيات ولكن شهرته وصلت إلى الجميع. فلقد كان متهمًا بارزًا فى قضية مقتل أمين عثمان باشا، رغم أنه آنئذ كان فى الخامسة عشرة.
لا نتحدث عن القضية. بل عن فترة بعدها ربما بأكثر من أربعة أو خمسة أعوام. وكان سعد زغلول فؤاد ابن مصر البار يعمل آنئذ فى الصحافة، فضلاً عن كونه طالبًا فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة.
وسيطرت الدولة على الإعلام وبالطبع على الصحف التى كان بعضها يخرج عن خطوط الدولة. ولذلك لجأوا إلى فكرة الرقيب. ولم تكن فكرة مبتكرة فلقد كانت الرقابة موجودة منذ الحرب العالمية الأولى ثم فى أيام الحرب العالمية الثانية، وكانت سطوتها بشعة إلى حد أنها كانت تمنع أخبارًا عالمية أو محلية تؤثر فى حياة الناس.
ولكن فى الخمسينيات كانت هناك أزمة من الصعب تخطيها وهى اتساع دائرة الإعلام نسبيًا، مع صعوبة إيجاد رقيب قادر على ممارسة عمله بكفاءة أو على الأقل رقباء كافين للصحف.
وأخذ الرقيب يشطب فيما كتبه سعد زغلول فؤاد، فحاول أن يشرح له أهمية ما كتبه وأنه لا يتعارض مع خط الدولة، لكن التفاهم بينهما كان صعبًا، وعندئذ لجأ سعد زغلول فؤاد ابن مصر البار إلى يده، وكانت «حديدية» وأؤمن أنه لا صفة أخرى أدق. وسالت دماء الرقيب. وارتبك الجميع، وطلبوا من سعد زغلول فؤاد ابن مصر البار أن يهرب. لأن «الدنيا» كلها ستأتى الآن للقبض عليه.
نزل من الجريدة وذهب إلى مقهى وطلب السيد أنور السادات عضو مجلس قيادة الثورة الذى كان أحد زملائه فى مقتل أمين عثمان. قالوا إنه فى حفلة فى شبرد. وطلبه الفندق وطلب منهم أن يتحدث إلى السادات. وتحدث إليه بالفعل وحكى له ما حدث، فطلب السادات لقاءه فى مكان بعيد عن الزحام. وقال له إن صبره نفد منه، فلقد كان له منذ فترة قصيرة حادثة أربكتهم، وهى أن سعد زغلول فؤاد ابن مصر البار ذهب إلى القنال واختطف ضابطًا «أو صف ضابط» إنجليزيًا اتضح فيما بعد أنه قريب الأسرة المالكة البريطانية. وأحرج هذا الحكومة التى لم تكن تعرف شيئًا عن الاختطاف. ولقد روى لى ما حدث اللواء الباجورى الذى كان مديرًا للأمن من عام 1952 إلى 1954 ولما كنت آنئذ طالبًا صغيرًا لم أسجل ما قاله.
المهم أن السادات طلب من صديقنا أن يرحل عن البلاد، وأن كل ما يستطيع أن يفعله هو مساعدته فى ذلك. وفى ذلك الوقت كنا نفتح الصحيفة فنجد جزءًا أبيض بمعنى أن الرقيب حذف الموضوع.
وبعد ذلك عملت فى الصحافة وبالذات فى سكرتارية التحرير، وكثيرًا ما كان جزء من مسؤولياتى التعامل مع الرقيب. الذى كان يأتى مساء الخميس ليقرأ المجلة كاملة قبل الطبع. وكنت أقدم له الموضوعات «الطيبة» أما الأخرى فكنت أؤجلها إلى ما بعد منتصف الليل. فلا يلحظ ما فيها من متفجرات. وكان الرقيب - الذى أصبح صديقا بعد فترة - يكره الأدب، ولم يكن يطيق قراءة قصة، فكان يطلب منى أن أحكى له القصة، فأحكيها له على أنها قصة حب فتى وفتاة. ولذلك كنا نضع المتفجرات فى القصة والشعر أكثر من المقالات السياسية.
وفى مجلة «السينما» كنت أرسل الموضوعات كلها إلى الرقيب. ولكننى نسيت موضوعًا واحدًا بالصدفة كان موضوعًا سياسيًا، وانقلبت الدنيا.
وعندما أفكر الآن فيما حذفوه أو صادروه أتعجب. فالرقيب لابد أن يحذف وإلا ما كان رقيبًا!
وذات مرة سألنى البواب وهو فى حالة قلق شديدة: سمعت من يقولون «من راقب الناس ماتت أمه». فما هذا؟
وضحكت وقلت له: من راقب الناس مات همّا!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
اشرف صادق ـ المحامى
اقرأ بعض نصوص القانون لتعرف ماسوف يتعرض له المحامون