د. بليغ حمدى

انفلات !

الأحد، 23 أكتوبر 2011 12:04 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
إذا جلست مع أحد أطباء الجهاز الهضمى، وأنا بطبيعتى أكره جلسة الأطباء، سيفضى لك بسر طبى مفاده أن معاناة الإنسان من حالات الإمساك المزمن فترة طويلة ستؤدى به حتما إلى حدوث انفجار فى الزائدة الدودية (المصران)، هذه النصيحة الطبية فاجأت عقلى وأنا أحاول تأمل وجه الوطن الذى بدا مشوهاً بعض الشئ، وكثيراً ما حاولت أن أبدو أكثر تفاؤلاً بالمستقبل القريب أو البعيد، لكننى كل صباح أفجع بأخبار آتية من كل فج عميق بوطنى باستطاعتها أن تزيح النوم عن عيون الساهر والمحب والمتيم.

تماماً هذه الحالة التى تمر بها مصر الآن أشبه بمريض الإمساك المزمن الذى لم تستطع أدوية الملينات والمهضمات أن تريح ألمه، وفشل العرافون والدجالون والأطباء المغمورون أيضاً فى علاجه فانفجر مصرانه بغير ميعاد. ويكفيك أن تطالع عناوين صحيفة ورقية واحدة أو موقع إليكترونى واحد أيضاً فقط لتدرك حجم المشكلة الصحية التى تعانيها مصر الآن والتى يمكن أن نوجزها فى كلمة انفلات.

وهذه الكلمة لا تعنى فقط الانفلات والتجاوز الأمنى السلبى، بل تتخطى ذلك المدلول لتتعدى إلى شواطئ معرفية أخرى مثل الانفلات الأخلاقى، والتجاوز القيمى السافر الذى شمل العادات والتقاليد التى تربينا عليها.

فهنا تلميذ بالصف الإعدادى اعتدى جنسياً على تلميذ آخر بالصف الأول الابتدائى، ومجهولون يقتلون صبياً، وطبيب يختفى فى ظروف غامضة، ووزراء لا يعلمون شيئاً عن الإدارات الفرعية التى تتبعهم، ونسب الفساد الحكومى ارتفعت هذا الشهر بصورة مستوحشة فظة، ولا يمكننا ونحن نتحدث عن الانفلات ألا نشير إلى التعديات اللفظية على فضيلة مفتى الديار على إحدى القنوات الفضائية وتناول سيرته بما لا يرضيه، وإن كنت متعجباً من رد فعله، فكنت أفضل أن يرد فضيلة المفتى العالم المستنير على التجاوزات التى طالته بالحسنى لا باللجوء إلى ساحات القضاء. ناهيكم عما تشهده نقابات مصر ومؤسساتها من وقفات احتجاجية وتنديدات دونما توقف، وتهديدات مستدامة بالاعتصام والإضراب عن العمل. وكلمة الانفلات تلك لم تنج انتخابات الجامعات منها أيضاً، فكلها كانت عبارة عن تربيطات بلغة الحزب الوطنى المنحل، ومعظمها لم تفكر فى مستقبل البحث العلمى الذى ينبغى أن ترتقى به هذه المؤسسات الأكاديمية.

ووسط هذا كله نجد تشجيعاً محموماً فى مدرجات الكرة وعصبية زائدة من المشجعين وإشارات أكثر غرابة من اللاعبين أنفسهم، كل هذه الإشارات تؤكد أن مصر تعانى من حالة انفلات نتيجة الإمساك المزمن الذى كانت تعانيه طوال ثلاثين عاماً مضت.

وبقدر ما أفكر فى الحلول التى يقدمها كل من هب ودب على الفضائيات التى لا ينقطع حديثها عن المحروسة بقدر ما أنا أفكر فى الطبيب الذى تحتاجه مصر الآن لينقذها من حالة الانفجار المصرانى المتوقع. والطبيب قد يكون رئيساً رغم أن رئيس مصر القادم لا أظن أنه سيملك مفتاحاً سحرياً لفك شفرة الانفلات والفساد والغموض الذى ينتظر البلاد.

لسبب بسيط يعيه القاصى والدانى، أن كافة المرشحين المحتملين للرئاسة يتحدثون عن مصر أخرى غير التى أعيش فوق أرضها، ولا يزالون يفكرون بمنطق الرئيس السابق فى بداية عهده بتحقيق آمال وتطلعات متناسين معظمهم الحالة الراهنة، ومنهم من أصبح مثلى يزيد الصورة سواداً وحلكة بدلاً من أن يقدم حلاً واحداً لمشكلة واحدة.

ورغم أننى لا أريد أن أزيد من المشهد المعاصر سواداً إلا أننى أقف متعجباً من أولئك الذين يصرون على تدعيم بعض الرموز السياسية فى انتخابات مجلس الشعب القادمة وهم فى ذلك يفكرون بمنطق عصر مبارك، ولا يدركون أن هناك ثورة حدثت فى مصر، بالرغم من أن بعضاً من مطالبها لم يتحقق حتى الآن، وأنا شخصياً سأذهب إلى لجان الانتخاب إن شاء الله ولكن غير مقتنع بمرشح محدد لأن معظم المرشحين لا يقف وراءه برنامج واضح، فهم يصرون على التشدق بعبارات العهد البائد وهى التشغيل والعدالة الاجتماعية ومحدود الدخل .

وهناك صورة أخرى لهذا الانفلات فى الأحاديث الانتخابية وهى الصورة الأهم للانفلات، على أيدى بعض المرشحين لانتخابات مجلس الوطن القادمة، فيا عجباً على بعض أولئك المتهوكين الذين انبروا دفاعاً عن الأقباط وقضاياهم المهمشة إعلامياً واجتماعياً، ورغم سكوتهم وصمتهم المطبق العنيد طوال أعوام سابقة، إلا أنهم الآن أصبحوا من نجوم الحديث عن مشاكل المسيحيين فى مصر، بل إن منهم من راح يدغدغ مشاعر بعض إخواننا المسيحيين بإطلاق وعود وردية جميلة بتحقيق كل مطالبهم فى السنوات المقبلة، وتجد منهم من يعلنها صراحة بحق القبطى فى تولى رئاسة الوزراء وربما رئاسة الجمهورية، وحقه فى إطلاق القنوات الدينية على القمر المصرى نايل سات دون عراقيل أو عقبات إدارية.

وأنا لا أعلم سبباً واحداً يبرر هذا السكوت من جانبهم فى الحديث عن المشكلات التى عانى منها المصريون مسلمون وأقباط منذ خمسة أشهر مثلاً، ولماذا الآن أصبح بعضهم مفتياً وخبيراً واستشارياً فى قضايا مثل العدالة والمواطنة و تفعيل الدولة المدنية.

والحقيقة التى لابد أن نعيها جميعاً أنه من الخطأ أن يظن أساطين البرامج الفضائية الفراغية وأعضاء الجماعة المحظوظة وبعض الموتورين السياسيين أن الشعب الآن مهموم بعقد مجلس برلمانى يمثله، أو يفكر جلياً وبروية فى انتقال السلطة فى مصر إلى دولة مدنية، أو تزداد هواجسه فى أن يبقى المجلس العسكرى فترة طويلة فى إدارة شئون البلاد، الحقيقة أن المواطن الذى لم يعد بسيطاً أو عادياً أصبح مهتما بمصيبة الانفلات التى يعانى منها فى كل أموره، وبين الانفلات وقبض الزمام انتظار أرجو ألا يطول.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة