أعترف بأننى لم أكن متعاطفًا فى يوم من الأيام مع الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى.. ذلك لأنه كان غريب الأطوار، صارمًا فى فكرة فرض نفسه على الساحة السياسية من خلال منطق الخلاف فى الرأى هو الزعامة!!.. فكان مدهشًا فى كل مؤتمراته العربية والدولية، وفى كل حالاته وتعليقاته كان لابد أن تضع أمامه علامة تعجب! إلا أننى برغم ذلك، وبرغم عشرات الجرائم التى ارتكبها ضد شعبه الليبى والشعب العربى وبعض الشعوب الأوروبية تأثرت بمشاهد اغتياله والتمثيل بجثته، واعتبرت ذلك أكبر انتكاسة للثورة الليبية الشعبية، لأنها تعود بنا إلى شريعة الغابة، حيث تنتصر الهمجية ويتراجع العقل والمنطق، وتتقهقر الحضارة فى مواجهة الغوغائية.. وكنت أتمنى أن يلجأ الثوار الليبيون إلى أرقى حالات القانون حيث يقومون بتسليم القذافى إلى القضاء الليبى العادل وتتم محاكمته والتحقيق معه فى كل ما ارتكب خلال سنوات حكمه التى تجاوزت اثنتين وأربعين سنة، متصلة، تم فيها إلغاء الديمقراطية التى كان يسخر منها، وتم فيها تدمير حرية الرأى وحرية الصحافة وحرية الحوار.. وظهر خلال هذه السنوات بصورة الديكتاتور الشرس الذى لا يسمح بأى حال من الأحوال بالمعارضة، وكم عانى أصحاب الرأى الآخر من القمع والنفى والسجن، وهذا أضعف الإيمان.. أما الكارثة الكبرى فكانت الحكم على المخالفين له فى الرأى بالاختفاء الغامض مثلما حدث مع الإمام الشيعى موسى الصدر أو مع السياسى الدبلوماسى الشهيد منصور الكيخيا..
وهى حالات لا يمكن أن تبشر بنظم ثورية جادة يمكن أن تخدم المجتمعات.. لم يكن القذافى يهتم بهذه الأمور.. وكان يتعامل مع شعبه وكأنهم من أبنائه الصغار، فكان كل همه هو توفير التموين الكامل للشعب، وبكامل لياقته أيضًا كان يطمئن على سلامة ما يأكله شعبه وما يشربه وما يركبه، وما يسمعه.. فقد وفر لهم جوانب الثقافة، وتم طبع أعمال رواد الأدب العربى والعالمى فى أفخر طباعة، ولكن للأسف كان وراءها الرقيب يقف شامخًا يتحكم فى كل ما يطبع، ويسمح لنفسه بأن يتدخل فيحذف ما يشاء ويلغى ما يشاء أو يطيح بأسماء كما يحلو له.. وكان هناك رقيب أيضًا على دور العرض المسرحى.. فلا يمكن أن تخرج مسرحية إلى النور إلى بعد أن تمر على أكثر من لجنة وعدة عراقيل.. كل هذه الأمور وغيرها حولت ليبيا على مدى سنوات حكم القذافى إلى سجن كبير، وإذا كان الأمل الأهم أن ليبيا تسبح فوق بحيرة من الذهب والأموال فإن العقيد القذافى للأسف أنفق المليارات من الدولارات فى أمور كثيرة لا تعنى أمته ولا الأمة العربية.. وكان يخرج علينا كل فترة بآراء غريبة.. حيث ساند الثوار الأيرلنديين سنوات، واستنزفت أموال ليبيا فى أشياء مدهشة لا تعود علينا بأى نفع..
وكانت النتيجة هى ما وصلنا إليه بعد هذه السنوات الطويلة من حكمه ومن الهيمنة على كل أمور البلاد الصغيرة والكبيرة، حتى تحول إلى كابوس، خاصة بعد أن تعاظم رأى غريب بدأ ترويجه منذ سبع سنوات وهو توريث الحكم لابنه، سيف الإسلام القذافى، وبدأ المنافقون يدافعون عن ذلك ويؤكدون المرجعيات التى تدافع عن ذلك.. ومن هذا المنطلق اشتد كابوس القذافى.
ولكن برغم كل ذلك.. لم أكن أتمنى أن أرى نهايته بهذا الشكل الفوضوى، كنت أتمنى أن يبدأ الثوار الليبيون حكمهم لليبيا من خلال سلطة القانون.. وليست سلطة السيف البتار.
فما حدث هو ضد حقوق الإنسان.. كنت أتخيل أن تعقد محاكمة عصرية يتسع صدرها للسماع لدفاعه إلى جانب سماع الاتهامات.. وما أكثرها!! لأن ما حدث وصمة عارض للشعوب العربية.
إلا أن ما حدث من تمثيل بجثة القذافى والإصرار على نهايته بهذا الأسلوب جعلنى أتأمل كثيرًا نهايات حكامنا العرب وزعمائنا الذين سيطروا على مقدرات الشعوب خلال حقب طويلة صالوا وجالوا فيها، وهاهى نهايتهم الواضحة، إما مقتولين أو خونة يحاكمون، أو فى انتظار البحث عن نهاية تليق بما فعلوه!