مصرع القذافى كان فى وحشية القذافى نفسه، تساوى القاتل والقتيل، وخسر الثوار أنفسهم بهذا المشهد الهمجى. لقد حزنت لما أرى، وما رأيته كان بعض ما بثته الشاشات.
لم يكن ما حدث من ضرب وسب بل وقتل ضرورة، فلقد سقط الطاغية فى الأسر، ولقد صدّعنا الدنيا باحترامنا للأسرى عبر كل العصور. كان الطبيعى أنه سيحاكم، وهذا أجدى لليبيا وأصح.
ولكن حماقة «الثوار»- إذا كان هؤلاء ثوارا- اغتالت الرجل الذى لم يعد يملك أى قدرة بوسائل خسيسة.
ولا تظن أننى تعاطفت يوما مع القذافى، فمنذ أن أتى وأنا أعرف أنه طاغية لابد من إزاحته، وأن الدهر ابتلانا به كما ابتلانا بغيره.
وأعود إلى عام 1971، أو ربما بعد ذلك بقليل، وكانت هناك حكومة مركزية مقرها القاهرة تجمع بين مصر وسوريا وليبيا، وكان وزير الإعلام المركزى عبدالله القديرى، وكنت أعرف عبدالله منذ سنوات طويلة، فلقد كنت أسكن بيتا يمتلكونه فى مدينة سمالوط، وكنت آنئذ فى المدرسة الابتدائية، وتعرفت فى البداية على أولاد عمه محمد، وعبدالله «الأصغر»، ويوسف، ولم يخطر على بال أحد أنهم ليسوا مصريين، وأصبح عبدالله «الأكبر»، أديبا كبيرا فيما بعد، وكل ما كتبه كان ينتمى إلى الأدب المصرى.
وعندما ذهبت إلى الجامعة كان عبدالله قد سبقنى إليها، ولأنه كان يدرس فى قسم الجغرافيا، فلقد عرّفنى إلى الشاب الدكتور جمال حمدان، ولو كنت أقرأ المستقبل ما تركته لحظة، وكعادة طلبة الأرياف فى ذلك الوقت سكنّا معا فى أوقات كثيرة.
وبالطبع كنت سعيدا أن يكون صديقى وزيرا، وكانت هذه أول مرة أتحدث فيها مع وزير، وعلى أية حال لم تتكرر كثيرا، وكان عبدالله القديرى نفسه أبسط من أن يكون صاحب منصب، وأذكر أننا نزلنا إلى وسط البلد- وكانت تلك عادة قاهرية فى ذلك الوقت- ومررنا على فندق كان له «تراس» يطل على شارع طلعت حرب، وسمعنا أصواتا تنادى على عبدالله، فغيّرنا طريقنا إلى الفندق، وهناك وجدنا عددا من الشباب الليبى- آنئذ بالطبع- وعرفوا لأول مرة أن عبدالله صار وزيرا، وقال أحدهم إنه عرفه من «البنطلون» الذى لا ينسى!
وكانت الوزارة المركزية فى مصر الجديدة، وكذلك بيت عبدالله وبيتى، ولذلك كنا نلتقى يوميا خاصة مع الأصدقاء القدامى، وكان أقربهم يوسف حنين، وهو مثقف أفادنا كثيرا، وضاع فى زحام الحياة.
وذات مساء كنا فى شقة عبدالله ومعنا عبدالقادر غوقة وكان وزيرا، لكنه أصبح سفيرا فى لبنان، ولاحظت سعادته بمنصبه الجديد، وسألت عبدالله بعدها، فقال لى: الوزارة فى ليبيا حبس، والسفارة فى لبنان متعة.
وجاء البكوش ليعلن لعبدالله أن العقيد سيأتى بعد قليل لزيارته، ورأيت أنه من الأنسب أن استأذن فى الانصراف، ولكن عبدالله كان مفرطا فى إحساسه بكرامته، ورأى فى ذلك ضعفا لا يليق به، بل رفض ترتيب المكان.
وأتى القذافى واستمرت الجلسة أكثر من أربع ساعات، ولم نكن سوى أربعة أشخاص، ورأيته عن قرب، وهو يتحدث بكلام غير مفهوم، ويحدق بنظراته تحت الكراسى، ويتطلع طويلا إلى السقف، ولكن الأغرب هو ما كان يقوله، إذ أكد أن كل الأنظمة العربية فاسدة وعميلة للغرب، ولذلك فعلينا- يقصد بالطبع عليه- أن نحرر الأمة العربية ونوحدها تحت قيادة واحدة، عرفنا فيما بعد أنه يقصد قيادته.
بعد تلك الليلة قلت لعبدالله عن القذافى إنه مختل عقليا، وأكد ذلك بحماس، وحكى لى حكايات تدل على هذا الخلل، ربما وجدت فرصة فيما بعد لكتابتها.
وكان من الأشياء التى يكررها فيما بعد اجتماعه مع المثقفين، وكان كلامه يدل على الخلل العقلى أيضا، وكنت أعتذر عن هذه اللقاءات، وإن كنت قد حضرت مرتين، إحداهما لأننى كنت أحضر مؤتمر اتحاد الكتاب العرب، وكان منعقدا فى سرت، وكان الخلل العقلى قد وصل إلى قمته، وكان خطابه للأدباء هجوما لأنهم يتقاعسون عن قضيتهم الأساسية، وكانت من وجهة نظره أن قنوات الـ «إيه.آر. تى» تكتب عناوينها بالحروف الأفرنجية!
وبالطبع دمر القذافى اقتصاد بلاده، وقتل ما لا يحصى عددهم، وقتل بعضا ممن نعرفهم، وأظنه كان من أسوأ حكام التاريخ، وحربه ضد شعبه فى النهاية تستحق المحاكمة والعقاب، ولكن أن يحدث ما حدث فهو- للأسف- ليس إهانة للقذافى، ولكنه إهانة للعرب، بل إهانة للبشر!
أرجو ننتبه فى المرة القادمة!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
فجر الإسلام
المقارنة ظالمة!والسؤال فى غير محله!
عدد الردود 0
بواسطة:
عبيد الملك
مهما كان
عدد الردود 0
بواسطة:
ليبي25
هلاك الطاغية
عدد الردود 0
بواسطة:
noura
حسبي الله ونعم الوكيل
عدد الردود 0
بواسطة:
ابن مصر
مقال خاطىء خاطىء خاطىء / وموتة بهذة الطريقة وبهذة السرعة رحمة لة
عدد الردود 0
بواسطة:
ليبي و افتخر
الي االكاتب المحترم
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد . أبو عبد الرازق
لم تأخدنا به رأفة في دين الله
عدد الردود 0
بواسطة:
أسامه علاء
حضرتك قاسى على الثوار!!
عدد الردود 0
بواسطة:
محمودامين
اين الحقيقة؟
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرى
رحمه الله فهو اسير حرب مسلم وانتقم الله من قاتليه على هذة الطريقة التتاريه