رحلت أمى عن الدنيا منذ شهور وأنا لا أصدق يوما أنها غابت للأبد, أرى ملامحها فى كل شىء حولى، حتى فى صفحات كتاباتى، أسمع صوتها ينادينى بنفس صلابته التى أعرفها جيدا، وأشم رائحة جلبابها القديم فى دولاب ملابسى, لم يقنعنى شىء أنها ماتت, لا عزاء أصدقائى ولا ملابسى السوداء التى ارتديتها دون قناعة منى ولا زيارتى لقبرها كل أسبوع.
كانت أحلامى تؤكد شعورى فكل يوم كانت تأتينى أمى فى المنام فى حلم يتكرر بدايته وتتغير بقية أحداثه.. يبدأ بخروجها من قبرها بعد أن نكتشف أن الطبيب أخطأ فى تشخيص حالتها، وأنها ما زالت حية، وأننا اكتشفنا علاج من مرضها الخبيث الذى ألم بها شهور، ولم يفلح علاج الأطباء فيه، وماتت وهى لا تعرف حتى أسباب وفاتها.
فى كل ليلة أحلم أنها عادت للحياة مرة أخرى.. عادت تأمرنى ولكن هذه المرة دون حنق منى، وأنا أطيع، وتقول وأنا أسمع دون مقاطعة، وتطلب وأفعل المستحيل لألبى, أظل بجانبها دون كلل أو ملل من أوامرها، أو طلباتها، أطلب منها الصفح كل ليلة على لحظة لم أكن بجوارها، فقد منعنى عملى أن أكون برفقتها فى بعض فترات مرضها بسبب وجودى فى القاهرة وتواجدها فى محافظة الشرقية.
كل ليلة تأتينى لتصفح عنى وتذهب ليتأكد إحساسى أنها موجودة حولى وأنها راضية عنى.
وأعود, واستقيظ, وأفيق مرة أخرى على نفس الحقيقة كأنى أحلم وأمى ليست بجانبى، فانهار ولكنى لا أصدق أنها ماتت، ويتكرر الحلم كل ليلة، وأعيش بجوارها فى جنتها ليلا، وأصحو كل يوم على كابوس غيابها عن حياتى، ويمر يومى وأعود أنام لأراها فى جنة أحلامى.
تمر أيام واقتناعى يزداد بأن أمى ما زالت معى ويأتى يوم إجازتى الأسبوعية فأركب سيارتى وأتجه إلى مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية التى عشت وتربيت فيها لأرى أمى، مثلما كنت أفعل كل أسبوع قبل فراقها، وأمسك بتليفونى فى نصف الطريق لأطمئنها على قدومى قبل الغداء، وأبحث عن اسمها على الموبيل وأضغط على مفتاح الاتصال لأفيق مرة أخرى على صدمتى على صوت يقول "إن الرقم غير موجود" بالخدمة فقد ألغاه أخى بعد موتها لأنخرط فى بكاء لا ينتهى ولكنى لا أقتنع أنها ماتت.
وكيف لى أن أقتنع أنها ماتت وهى على الرغم من كل الخلافات بيننا إلا أننى لم أتخيل لو لحظة أنى أمى ستتركنى بمفردى فى حياة فاترة قاسية بدونها, وتمر الأيام، وأحاول أن أتعايش مع عدم وجودها، ولكن دون جدوى، ولم تفلح محاولات أصدقائى للتخفيف عنى، ولا كلام أقاربى ولا حتى طموحى فى عملى الذى أصبح لا قيمة له بدونها، حتى جاء يوم كنت أمر بمشكلة كبيرة واشتقت إلى رائحة أمى التى كنت أعشقها حينما تضمنى فى أزماتى إلى صدرها، وظللت طوال الليل أنظر إلى صورتها وأبكى، وأنا أردد "هتيجى امتى بقة، ولا أنا أروحلك.. ليه يارب سبتنى, تعالى يا ماما وخدينى معاكى, ما تسبنيش لوحدى فى الدنيا", حتى نمت من التعب وشدة البكاء مع أذان الفجر، وحلمت هذه الليلة بأمى ثانيا، ولكنها كانت فى رؤية مختلفة، فرأيتها على أجمل صورة منذ جئت إلى الدنيا بوجه يكسوه الرضاء والفرحة، وكنت أبكى أمامها فجاءت تتقدم بخطى ثابتة نحوى، ومسحت على رأسى، وقالت لى "هو انت حزينة مش انت دعتيلى بالرحمة".
وذكرتنى وقتها ما فعلته قبل موتها بثلاثة أيام، ولم يعرفه أحد إلا الله، فقد صليت الفجر، وأنا أتألم من شدة آلام مرضها التى عجز الأطباء عن إيجاد حل لها، ودعوت الله قائلة "يا رب لو باقى لأمى ذنوب لم تغفر فاتركها وارحمها، واكمل تكفيرها منى، فإنها لم تعد تتحمل المرض".
ذكرتنى أمى أننى طلبت لها الرحمة من الله، وأن الله استجاب ورحمها من مرضها وآلامها، ورأيت وجهها فى أجمل صورة منذ ولت ومضت، وهى تقول أنا فى أفضل حالاتى، ولا تحزنى لفراقى فإنى فى رحمة الله، وإنه وحده أرحم من أى إنسان، وإنه أرحم عليها منى، وهنا صحوت من نومى، وأنا أقول ماتت أمى، ولكنها فى رحمة, الله يرحم أمى.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
هاني جريشة
مقال رائع ومؤثر
عدد الردود 0
بواسطة:
نادر حبيب
الرحمة لكل موتى المسلمين
عدد الردود 0
بواسطة:
د.محمد سلامة
وهكذا كانت امى
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
الله يرحمها ويرحم جميع المسلمين والمسلمات
عدد الردود 0
بواسطة:
صااابرين
الله يرحم والدتك ويدخلها الجنة ان شاء الله
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود البرغوثي
البقاء لله
عدد الردود 0
بواسطة:
مراقب
ماتت أمي منذ 11 عاماً ... ولازلت أبكيها حتى الآن !!!!!!!!!!!
رحمها الله .. ورحم جميع أمهاتنا ... اللهم آمين .
عدد الردود 0
بواسطة:
عماد
البقاء لله
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
رحم الله والدتك وكل موتانا جميعا وأسكنها فسيح جناته
عدد الردود 0
بواسطة:
عاي عبد الحليم
يــــا بـــخـــــــــت أمــكــــــــــك بــيــــــــــــــــكي