د. محمد محسوب

السلفية والمدنية

السبت، 29 أكتوبر 2011 10:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يسعى الإسلام إلى إنشاء دولة دينية بالمعنى الكنسى الأوروبى ولا يقبل هيمنة جماعة من البشر على المجتمع

يضع البعض، جهلا، السلفية ضد المدنية، جاعلا منهما خصمين عقائديين وسياسيين؛ بينما أنه لو تفكّر قليلا، وتأمل ما تحت بصره من نصوص وحقائق لأدرك أن المدنية هى الصورة التى ينشدها السلف، وأن السلفية هى الأصول التى تنبنى عليها المدنية.
نحن فى إطار الفكر الإسلامى فى صورته النقية الأولى وعلى طريق خطّه السلف بسلوكهم الراقى وفكرهم العبقرى؛ لا نجد تناقضا بين المدنية بالمعنى العصرى والنموذج الإسلامى للدولة والمجتمع.
ربما ينطلق البعض من رواسب فكرية فى عقله لم يسع إلى تدقيقها تذهب إلى إن المدنية مصطلح يستر وراءه المذهب العلمانى فى نظام الدولة والحكم والمجتمع؛ وإذ يرى أن العلمانية هى تفريق بين الدين والدنيا وإقصاء للعقيدة، فهو ينتهى إلى إدانة المدنية ولعن العلمانية.
والغريب أن صاحب تلك الفكرة يذهب دائما إلى النماذج القصية والمستغربة ليدلل على صلاح فكره ودقة ما يذهب إليه، وأود أن أحيطه علما بما يأتى:
أولا: إن العلمانية هى إفراز أوروبى لفض الاشتباك بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة الأوروبية القومية الحديثة؛ وهو نموذج غير متكرر، ولا تتوافر شروط تحققه فى العالم الإسلامى، إذ لا توجد مؤسسة دينية تصارع مؤسسة الدولة فى الهيمنة على أمور الحكم والسياسة.
ثانيا: إن العلمانية فى أوروبا تتعدد أشكالها، فمنها ما هو متصالح مع الدين كتلك العلمانية الإنجليزية التى تشغل فيها الملكة رأس الكنيسة وتستند فى بناء الدولة على بعض المبررات الدينية. بينما إن من العلمانية ما هو شديد القسوة على الكنيسة والدين، كالنموذج الفرنسى، والذى انعكست معاناته من دكتاتورية الكنيسة الأم فى روما خلال العصر الوسيط، فأصبح شديد الحساسية لكل ما هو دينى. وما قانون حظر الرموز الدينية إلا أحد مظاهر الهلع من خلط الدين بالدنيا لدى الفرنسيين.
ثالثا: إن العالم الإسلامى لم يعرف هيمنة للمؤسسة الدينية على نظام الدولة والمجتمع، ولم يمر بصراع دينى دنيوى، وليس من المنتظر أن يمر بتلك التجربة، وذلك لعدة أسباب:
طرح الإسلام نفسه حلّا لإشكالية العلاقة بين الدنيا والدين، فرفض منذ اللحظة الأولى أن يعتمد فى وجوده على تكوين طبقة دينية كهنوتية؛ بل وأدان التخلى عن الدنيا والتفرغ للعمل الدينى فكان أئمتنا زرّاعا وصناعا وتجارا، وعلماء فى الشرع فى ذات الآن، وجعل العمل بالعلوم الشرعية لا يختلف عن العمل بالعلوم الطبيعية، ولا يعطى للعامل به حصانة أو مكانة تقدمه على غيره.
قبل الإسلام الاجتهاد لاستخلاص الأحكام الشرعية من مصادرها، وجعل كتابه مفتوحا لكل قارئ أو متأمل أو مفسر أو متأول، وقدم المغفرة على الإدانة لمن يخطئ فى تفسيره أو تأويله، وجعل قول أى فقيه إنما هو رأى يصيب ويخطئ، وجعل العصمة الدينية قاصرة على كتاب الله وسنة رسوله، بينما لا يكتسب الاجتهاد عصمة ولا حصانة.
جعل الإسلام الإرادة الإنسانية هى أساس كل حكم ومبنى كل قاعدة، فلا يحتاج المرء لطقوس يدخل بها إلى الإسلام ولا إلى إجراءات دينية ليعقد زواجا ولا إلى شيخ يشرف على ولادته أو دخوله للدين أو زواجه أو مماته، فكل مسلم هو كاهن لمعبده وشيخ لطريقته وسيد على عقله.
نقد الإسلام التبعية للغير، وحذر أن الذين اتبعوا سيتبرأون من الذين اتبعوا يوم الحساب ولن ينفع التابعين اعتذارهم بأنهم تخلوا عن عقولهم لغيرهم، وإنما سيكون ذلك العذر ذاته ذنبا دينيا ومدعاة لاستحقاقهم الإدانة.
فى ظل ذلك، لا يسعى الإسلام إلى إنشاء دولة دينية بالمعنى الكنسى الأوروبى، ولا يقبل هيمنة جماعة من البشر على المجتمع بزعم أنهم يمثلون الدين أو يعبرون عن صحيح تفسيره، ولم ير تاريخه حكما لرجال دين، بل على العكس من ذلك كان سلفنا الصالح ضحية لظلم بعض الحكام الطغاة، فقُتل كثير من التابعين، وهم يدافعون عن نظام الشورى، وحُُبس أحمد ابن حنبل وهو يدافع عن رأيه فى معركة خلق القرآن، ولا تنتهى سلسلة العلماء المجاهدين ضد الظلم والجور والاستبداد بالرأى حتى عصرنا الحالى فتملأ أسماعنا أصوات علماء أجلاء يعلنون كل يوم كلمات حق فى مواجهة حكام غلاظ القلوب عتاة وطغاة.
وإذا استبعدنا العلمانية لكونها نظاما مرتبطا بتطورات تاريخية جرت فى أوروبا لا أثر لها فى بلداننا، فلا يجوز أن نستبعد المدنية والتى هى فى حقيقتها إنجاز إسلامى، إذ سبق الإسلام غيره فى فض الاشتباك بين الدين ونظام الحكم والدولة، وجعل هدف الدولة تحقيق العدالة وإشباع حاجات الناس، وجعل من رضا الشعب أساسا لمشروعية الحكم.
وتعنى المدنية فيما تعنيه ألا تستند الدولة وحكوماتها على مبررات تجعلها فوق مستوى النقد أو حتى سحب الثقة والإسقاط، سواء كانت مبررات دينية أو عسكرية أو غير ذلك. كما تعنى أن تتحول إلى دولة تقودها المؤسسات، ولا يصبح فيها رأس النظام طاغية فوق المسؤولية، بل موظفا مسؤولا يسهل استبعاده إذا أخل بواجبات وظيفته.
وتعنى المدنية خلق دولة حديثة متقدمة تسمح بمساحة هائلة من الحرية لعقول وألباب الناس، إذ يأتى التقدم نتيجة لحرية الإرادة وحرية الإبداع، ولا يأتى من القبول بالقديم والتمسك به دون تطويره أو تدويره أو الخروج عليه إن اقتضى الأمر؛ فإذا كان الابتداع فى المفاهيم الدينية المعلومة من الدين بالضرورة أمراً مستجناً لأنها تشويه للدين وإتلاف لأسسه، فإن الابتداع فى كل علم وفرع وفن هو أداة التطور والقفز إلى الأمام وتحقيق ريادة الأمة.
تلك هى المدنية التى نعتبرها إنجازا للمسلمين الأوائل والتى سمحت لمائة ألف صحابى مات عنهم النبى صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا للعالم من البداوة فيستوعبوا ثمانين مليونا من سكان العالم القديم بحضارتهم وتراثهم، حتى يعجب جاك برن كيف لهؤلاء لا يذوبون فى حضارة رومانية أو فارسية، بل ويذيبون فى حضارتهم الوليدة كل حضارات العالم القديم بعراقتها ويُنتجون للعالم نموذجا فريدا من التدين والتسامح والتحرر وسعة الأفق والابتكار، سمح ببناء حضارة أسهم فيها المسلم وغير المسلم، سمّاها الجميع حضارة إسلامية لموقعها فى العالم الإسلامى، رغم أنها جمعت فى أحضانها شعوبا شتى ومللا عدة.
تلك هى المدنية يرحمكم الله..








مشاركة

التعليقات 10

عدد الردود 0

بواسطة:

khaled

تلك هى المدنية يرحمكم الله..

لقد أتبعت من سيكتب بعدك يا دكتور

عدد الردود 0

بواسطة:

dr_hamada

ماشاء اين كنت من زماااااان يا دكتور

ما شاء الله مقال رائع جدا

عدد الردود 0

بواسطة:

د.كمال

السلفيين والاخوان لايفهمون كيفية الاختلاف فى الرأى

عدد الردود 0

بواسطة:

حازم

حقيقى ربنا يكرمك .. حضرتك صاحب قلم أمين توف كل ذى حق حقه

عدد الردود 0

بواسطة:

فجر الإسلام

الإسلام أبو " الحقوق السياسية للأمة "!

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد البيلى

الله عليك

عدد الردود 0

بواسطة:

عمار ابوطالب

تستحف التعليق

عدد الردود 0

بواسطة:

sophia

أفضل مقال قرأته على جريدتكم

مقال أشد من رائع

عدد الردود 0

بواسطة:

د/سامح

و الله لقد قال الإلإخوان هذا الكلام مئات المرات

عدد الردود 0

بواسطة:

هبه يوسف

هذا هو الاسلام يا دعاة السلفيه والمدنيه

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة