لا تزال الاحتجاجات والإضرابات التى تسود الوزارات والهيئات فى مصر تشكل الخطر الأكبر، وتفتح مجالاً للشك فى نوايا هؤلاء، ولمصلحة من يتم تعطيل العمل الذى يهدد بإشعال مصر من الداخل؟.
وصلت الاحتجاجات إلى هيئة الكتاب نهاية الأسبوع الماضى، هذا الكيان الثقافى الذى أعتبره ذى طبيعة خاصة، لأنه واجهة ثقافة مصر، فالهيئة هى التى تمثل بلادنا فى المعارض والمنتديات الدولية، إلى جانب أن هيئة الكتاب تشكل هيبة الكتاب المصرى، وهى ترمومتر يشير إلى تحضر المثقفين فى مصر، وارتفاع مستواهم والارتقاء بأذواقهم وإبداعهم.. لكن الإضرابات الأخيرة غيرت هذه المفاهيم وأدهشتنى لأكثر من سبب، وأن الهيئة فى الوقت الحالى ومنذ فترة قد استتبت أمورها، وتم حسم مسائل معلقة ومشاكل كانت عائقًا لنمو مسيرتها، خاصة أن رئيس الهيئة الدكتور أحمد مجاهد رسم خريطة إدارية وفنية لإعادة الهيئة إلى مكانتها بعد سنوات من التخبط.
«مجاهد» حسم مجموعة من القضايا التى لم تكن محل نقاش، مثل إدارات النشر وتنظيم طبع الكتب وإقامة الندوات بعد افتتاحه لقاعة كبرى خاصة بالاحتفالات الثقافية.. ولم تكن بالهيئة قاعات لهذه المناسبات من قبل، كذلك تمكن فى المشروع الأكبر من أن يحققه بعد سنوات من المشاكل، فقد استرد أرض الهيئة فى منطقة «فيصل»، وتمثل سبعة أفدنة، وأقام معرضًا للكتاب لأول مرة هناك، وحقق أرباحًا ملحوظة.. فضلاً على التطور الواضح الذى أحدثه فى شكل ومضمون الكتاب الصادر عن هيئة الكتاب، وهذا النشاط يعتبر امتدادًا لما فعله فى قصور الثقافة لأن إنجازاته هناك واضحة، فقد أحدث طفرة، فقصور الثقافة التى تم تشييدها ستكون شاهدة دائمًا على إنجازاته، وهو يتجول فى أنحاء الجمهورية وقد جعلها صرحًا شامخًا.
«مجاهد» لديه رؤية واضحة وفكر وطموح نحو تحقيق عمل محدد، يرى أن الهيئة لابد أن تصل إلى مرحلة من الارتقاء وحالة من التحضر، وقد بدأت ملامح ذلك تظهر على إنجازات الهيئة.. إلا أن ما حدث مؤخرًا أراه مؤامرة مثل المؤامرات التى تحدث لتعطيل العمل فى كل دواوين الوزارات والهيئات والشركات والمؤسسات، والناتج هو قطع الشوارع ومداخل أبواب العمل ووقف الإنتاج نتيجة كثافة المحتجين الذين أشك فى نواياهم، أو مع من يعملون؟ ولحساب من؟!.. فإذا كانت المصلحة العامة للوطن قد غابت عن قلوبهم وعن عقولهم وعن ضمائرهم، فماذا يتبقى لهم؟!.. إنها المحنة الكبرى حين أرى المصالح مغلقة، والعاملين فى الشوارع، فماذا يريدون أن يطالبوا الدولة به؟ فإذا كانت لهم حقوق.. فهل تعلموا من الثورة أن يطالبوا بها بهذا الأسلوب؟!.. وهل تعطيل العمل وزيادة نسبة البطالة فى مصر هما الحل لتنفيذ مطالبهم؟.
إنها آفة كبرى، وأعتقد أن هناك أيادى خفية تلعب لمحاولة تدمير الثورة عن طريق هذه الاحتجاجات.. لا أتخيل أن الأمر يدار بإرادتهم هم أنفسهم، لأنهم لا يمكن أن يعملوا ضد مستقبلهم، وضد مصلحة مصر.. الاحتجاجات ستقود شباب مصر إلى ضياع ومتاهات، وتقلص فى الإنتاج، وتعطيل عجلة النمو، فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه لزيادة الإنتاج، وإذا بنا نجد أن هذه الاحتجاجات قد وصلت أنحاء الجمهورية، ومعها زاد الاستبداد والمطالب والإصرار على تنفيذها فورًا.. فمن أين تأتى الدولة بالموارد، فى ظل زيادة الأعباء؟!.. ففى هيئة الكتاب كنموذج لذلك نجد أن عمال المطابع يطالبون بصرف مكافأة معرض الكتاب الذى تم إلغاؤه بسبب الثورة، والمعرض لم يفتتح حتى يحصلوا على مكافأة.. ولو كان هناك مكافأة للتجهيزات لكان من الممكن الحصول عليها من ميزانية العام الماضى أثناء تولى رئاسة الدكتور صابر عرب هيئة الكتاب.
أما الأمر الأعجب فهو طلب هؤلاء العاملين مكافأة مكتبة الأسرة.. وحتى الآن لم تبدأ طباعة هذه الأعمال، ولا تزال اللجنة المسئولة عن اختيار العناوين تعمل، فكيف إذن يتم صرف المكافأة قبل بداية العمل.. ثم هناك مشكلة العاملين باليومية فهم يطالبون الدكتور مجاهد بتثبيتهم فى حين تم تثبيت كل العمالة المؤقتة بعقود لمن قضى ثلاث سنوات فى العمل أو أكثر.. أما بالنسبة للعمل باليومية نظير أجر يومى فوزارة المالية لم تثبت أحدًا من هذه الفئة فى الدولة كلها.. وسلطة رئيس الهيئة لا تملك حل ذلك، وتحقيق هذه المطالب على الإطلاق.. لأنها مطالب غير شرعية، وغير منطقية.. وقد أعجبنى تصريح الدكتور عماد أبو غازى، وزير الثقافة، معلقًا على الأحداث بأنه لن ينصاع لهذه المطالب غير الشرعية التى لا تستند إلى القانون، وأنه لن يقبل استقالة الدكتور أحمد مجاهد، وأرى أن موقف الوزير إيجابى وحكيم، وهناك قطاع كبير بالهيئة العامة للكتاب يرفض هذا الأسلوب، ويؤيد مسيرة الإصلاح فى الهيئة.. فنحن لسنا ضد أن يكون هناك مكافآت، ولكن ضد كل ما هو غير شرعى.. لأن هؤلاء الراغبين فى إفساد كل شىء جميل يعملون من خلال الثورة المضادة التى تهدف إلى تدمير الثورة الحقيقية فى حلم مستمر منهم لعودة الفساد القديم، الذى نجحت الثورة فى حرقه وإبعاده عن شئون البلاد.
هم يجهلون أن قيام الدولة القوية فى هذا الوقت الحرج يحتاج إلى سيادة القانون، لا سيادة الإضرابات، ويحتاج إلى الاستقلال عن الضغوط الخارجية، إن من أول ما أفسد الحياة السياسية بعد ثورة 25 يناير تواصل الاحتجاجات التى لا يصلح معها أى حوار أو مناقشات نحو حل الأزمات والمشاكل.. يحدث ذلك فى ظل حكومة ضعيفة، تتراخى أمام الأحداث، ولا نجد لها صدى مع تفاقم الأحداث.. الحكومة فى حاجة إلى قوة، وإلى تفعيل، وإلى الوصول إلى أماكن الأزمات.. لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن تفشى هذه الأزمات سيتحول إلى سرطان يصعب ملاحقته، أو علاجه.. لكنى أود أن أقول للعاملين بهيئة الكتاب بأن يعيدوا ترتيب مطالبهم ويدرسوا ما يمكن أن يناقشوه مع رئيس الهيئة بعيدًا عن التظاهرات، لأن الدكتور مجاهد سيكون دائمًا على قدر ثقتكم به بعيدًا عن الأيادى الخفية التى تحاول إشعال الفتنة بينه وبينكم.