منذ تسعة أشهر تقريبًا، هى عمر ثورة يناير المجيدة، ويتردد على آذان وألسنة المصريين ما يُعرف اصطلاحًا بـ«الضد - أمنية» أو ما نُسميه نحن اليوم «الانفلات الأمنى»، فلا يخلو مجلس مصرى هذه الأيام من التطرق إلى مناقشة الوضع الأمنى فى البلاد، ورغم حقيقة أن النقاش مفرخة للأفكار والرؤى، فإنه أيضًا قد يُفرز الشائعات والأكاذيب.. وللأسف ما ينتج الآن عن كثير من المجالس المصرية هى الأقوال المرسلة غير المستندة إلى دلائل سوى "السمع عن فلان"...
أذكر فى مجلس مصغر ضم مجموعة من الأصدقاء على اختلاف انتماءاتهم السياسية، كنا نتدبر الوضع المصرى شأننا فى ذلك شأن كافة شباب مصر، وكان سؤالنا الرئيسى فيما بيننا، هل يمكن إجراء الانتخابات البرلمانية فى ظل الوضع الأمنى الراهن؟، فأجاب الغالبية بلا!! والعجيب أنهم استفاضوا فى التدليل والتأكيد على سوء الوضع الأمنى فى مصر ضاربين المثل على ذلك بالعديد من ممارسات البلطجة والسرقة التى سمعوا عنها من أصدقاء آخرين أو من الأقارب!!، دون معايشتهم هم شخصيًا وواقعياً لهذه الممارسات التى كلها سمعية.
وبخلاف إنتاجية المجالس المصرية التى قوامها الأول - السمع أو أن فلان قال لى أو أن فلان هذا رأى رؤى العين.. إلخ-، يأتى الإعلام المصرى، سواء المقروء أو المرئى وحتى المسموع، مغذيًا ومبلورًا لحالة الانفلات الأمنى بأذهان المصريين وتحويلها من مجرد حالة عابرة ظهرت فى المجتمع بنسبة عادية فى ظل ظروف معينة عايشتها من قبل كثير من دول العالم، إلى ظاهرة تستوجب الدارسة والتحليل واستضافة الخبراء للوقوف عند الظاهرة، غير عابئين بالنتائج السلبية المترتبة على ذلك، من تعطُل تدفق السائحين والاستثمارات التى يحتاجها الوطن للخروج من المأزق الاقتصادى الحالى.
ولا تنعكس نتائج إشاعة الانفلات الأمنى على تعطيل السائحين والاستثمارات فحسب، بل قد تؤدى إلى اتخاذ القيادة السياسية الحاكمة قرارات تخل بمبدأ سيادة القانون، وهو ما حدث بالفعل كقرار المجلس العسكرى باستمرار حالة الطوارئ فى مخالفة صريحة للدستور والقانون، أو يؤدى إلى تأجيل الاستحقاق الانتخابى كما ينادى البعض بحجة الانفلات الأمنى.
بالتأكيد هناك حالة من عدم الانضباط الأمنى فى الشارع المصرى لابد من الاعتراف بها وعدم تجاهلها، ولكنها فى الواقع لا تخرج عن كونها مجرد حالة لم تصل بعد إلى حد الظاهرة، مما يمكن التصدى لها ومعالجتها، وهناك دلائل على أن الانفلات الأمنى فى مصر حالة شارك فى ظهورها وإخراجها أطراف عدة لها أغراض خاصة، منها: أطراف خارجية يؤرقها فكرة الديمقراطية وتطبيقها فى مصر، وأخرى داخلية ترى أن ثورة الخامس والعشرين من يناير خطر عليها وعلى مصالحها.
وهناك استطلاع للرأى لا يمكن تمريره هكذا دون تدقيق، أجراه مركز «غالوب» فى أبو ظبى (مركز بحوث منبثق عن مؤسسة «غالوب» العالمية الرائدة فى مجال أبحاث الرأى العام)، وجهًا لوجه مع عينة من المواطنين المصريين البالغين، أثبت أن معدل الجريمة فى مصر اتسم بالثبات ولم يتغير عن أيام ما قبل الثورة، ولكن ما تغير هو ارتفاع معدل الشعور بالخوف من 10% قبل الثورة إلى 38% بعدها، ومعنى أن وضع الأمن فى مصر ثابت كما يقول استطلاع «غالوب»، وأنه لم يتغير أو يتأثر انخفاضًا أو ارتفاعًا ولم يختلف باختلاف ظروف الثورة، أن مصر لا تعانى انفلاتًا أمنيًا، بل زيادة فى الخوف، نتيجة لكم الشائعات المتداولة بين الأفراد وبعضهم البعض.
وهنا علينا أن نُسجل ملحوظة هامة: بأن خبر الاستطلاع السابق لمركز «غالوب» رغم ما يحمله من نتائج إيجابية لمصر، خاصة فيما يتعلق ومجالى السياحة والاستثمار، فإنه لم يحظ باهتمام كافٍ، سواء على مستوى الحكومة التى كان يجب عليها تسويق الخبر إعلاميًا بطريقة جيدة فى الخارج، أو على مستوى الإعلام الداخلى الذى كان تعرضه للخبر متواضعًا إلى حد كبير.
وأغلب الظن أن المواطن المصرى يعيش فى جو تآمرى هو أول من وضع نفسه فيه، لأنه ترك آذانه لتصديق الشائعات، وأوهم نفسه بأن هناك انفلاتاً أمنياً فى المجتمع، ومن ثم أخذ يبحث عما يؤمن له حياته، فكان شيوع التنبيهات بعدم الخروج فى أوقات متأخرة من الليل، وكذلك عدم القيادة على الطرق الطويلة كطريقى المحور والدائرى، هذا إلى جانب انتشار السلاح اعتقادًا بأنه يؤمن الحياة، وبالتالى هو الوحيد القادر على إخراج نفسه من دائرة أوهام الانفلات الأمنى الذى وضع نفسه فيها، وذلك بالتأكد من الخبر قبل تصديقه.
وعليه يتعين علينا جميعًا إذا أردنا بناء مستقبل وطننا الغالى مصر أن نُنحى جانبًا، لاسيما فى المرحلة الراهنة ثقافة الأوهام والخوف ونبدأ أولاً: بأنفسنا كأفراد عبر الإنترنت (مواقع الفيس بوك والتويتر وخلافه) بنشر الطمأنينة والأمان وتشجيع الأهل والأصدقاء على الذهاب إلى صناديق الانتخابات البرلمانية، وثانيًا: كإعلام ليس المطلوب منه سوى تفعيل ميثاق الشرف الصحفى الذى على ما يبدو أنه منسيًا هذه الأيام لعدد من الوسائل الإعلامية، وثالثًًا: كحكومة بخلاف أدوارها المتعددة عليها أن تضع برامج توعوية تهدف فى الأساس إلى بث الطمأنينة والأمان فى قلوب العامة والخاصة، ذلك الأمان الذى لم ولن ينتهى من المحروسة بإذن الله... وأخيرًا نريد ألا يتأخر التغيير كثيرًا.