رغم حالة التبطل التى أصابت معظمنا، إلا أننا جميعاً نشكو من الضجة حولنا، ونحلم بإجازة حتى لو كانت صغيرة، وعندما أتيحت لى هذه الفرصة كنت شديد الحماس حتى لو كانت رحلة علاج. وفى الطائرة سيطرت علىّ صورة استحضرتها من التراث العربى عندما ظهر القرامطة وكادوا يصلون إلى السلطة، فلقد قالوا عنهم إنهم يحتفلون حفلات ماجنة تتخللها الخمور والفواحش، وتكون الحفلات فى الظلمة حتى لا تعرف من كان مع من.
وهى صورة- لو أنك لاحظت- متكررة صنعها فى الغالب خيال عدوانى ضد «الآخر» الذى يكرهه أشد الكره، صورة موجودة فى التراث القديم، وعاشت حتى بدايات القرن العشرين وحتى فى دول كبرى.
وبغض النظر عن «المجون» فلقد رأيت الصورة ملتبسة، ربما كانت غير مفهومة، وحتى لو فهمتها لا أستطيع تصديقها.
كنت أعرف أن الثورات والأزمات والحروب تظهر أفضل ما فى الإنسان وأنها أيضاً تظهر أسوأ ما فى الإنسان وأننا ابتهجنا بصورة المصرى فى ميدان التحرير حتى انتزعنا الإعجاب من العام كله ثم تحولت الصورة: صديقى الذى هاجم «الاحتجاجات» فى نهاية يناير وبداية فبراير، وتشدد فى مطالبة المحتجين بالأدب مع رموز الدولة، صديقى هذا يبدأ حديثه الآن قائلاً: عندما كنت فى ميدان التحرير الظلمة سادت الاحتفال ولم يعد يعرف من وقع على من؟!
لماذا؟ أنت تعرف وهو يعرف، وكل الناس تعرف، ولشدة ما نعرف نجهل! هذه ثورة يقول البعض إنها انتفاضة أو احتجاج أو ... وأنا لا يضايقنى الاختلاف على المصطلح المهم أن ما نسميه ثورة يحتاج إلى قيادة وبرنامج وخطة طريق، والذين قاموا بما نسميه ثورة- ويختلف معنا بعضهم- تواروا أو أسدلوا عليهم الستار، وتصدر الصورة صديقى الذى أشرت إليه وأمثاله. وخرج كل واحد ببرنامج. حفلة مظلمة سوداء لا تعرف من اصطدم بك فيها!
فى وسط الرحلة وصلنا إلى فندق فى سان ميشيل بباريس وكان ذلك ليلاً وسارع من معى بحمل الحقائب وإخراج ورقة الحجز وكنت وحدى الذى يرقب موظف الاستقبال وهو يحدق فينا ويبتسم ابتسامة صغيرة، وأدركت أنه يعرف اللغة العربية، واتضح فيما بعد أنه من شمال أفريقيا ودون بداية واضحة أخذ يشرح لنا فى صوت هادئ وكأنه يخاطب الباب: طبعاً أنتم تعرفون أن الذين دفعوا إلى الثورات العربية هم الماسون لقد استثمروا التناقض ليفجروا الثورة: لماذا.. ليفتتوا المنطقة إلى دويلات.
إنها على أى حال محاولة لفهم الحفلة فى الظلمة وإن كنت أشك فيها وأنا أعرف أن العالم كله مشغول بالماسونية، وأننا وحدنا فى مصر الذين لا نهتم بها وفعلاً هذه ظاهرة غريبة، فالماسونية قديمة فى مصر، وكان لها محافلها الشهيرة وصحفها العلنية وكان من أعضائها علنا حكام مثل الخديو توفيق، وثوريون مثل جمال الدين الأفغانى ولكن عندما قرر جمال عبدالناصر إخضاع محافلهم لرقابة الدولة كاملة أغلقوا المحافل وحدث ما يشبه هذا فى بلاد أخرى، ولكن ظلت الحركة عندهم قوية سراً، وفى بعض البلاد العربية كنا نرى شخصاً يصعد بسرعة ونجد من يهمس لنا بأنه من الماسون، وتساءلت ذات مرة كيف يتعارفون فقالوا لى إن لهم سلاماً باليد يعرف به أحدهم الآخر، وتذكرت أننى عندما سلمت على «فلان» دهشت فى طريقة سلامه ورغم هذه التجربة ورغم حديث موظف الاستقبال ورغم دائرة معارف الماسونية التى اشتريتها إلا أننى لا أصدق ما يقال.
صدقت أو لم تصدق عليك أن تعترف بأننا فى حفلة ضخمة يسودها الظلام، ويزيدها ظلاماً مئات الفضائيات، والأصوات عالية فلا تميز ما يقولون. الضرب تحت الحزام، اللمس بلا قواعد، الصراخ قد يكون ألماً وقد يكون استمتاعاً، لا تميز من على يمنيك لكنه يهدد بالقتل من على يسارك، ومن يستنجد بك قد يكون فى يده سكين.
دعوا تفسير الماسونية أو غيرها، ولنعد إلى القاعدة البسيطة أن هذه ثورة برغم أنف موظف الاستقبال، وكل ثورة لها قيادة مهما تحدثنا عن مضار الكاريزما وأن لها برنامجاً مهما اختلفنا عليه، وأنه لابد أن يكون لها خطة حتى لو كان بعضنا له حساسية من الخطط الخمسية.
اتكلوا على الله وأضيئوا الأنوار..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب مصدر السلطات
نحن الان فى منتصف الطريق بين افغانستان وسوريا والسبب عشق الاستبداد والكرسى
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
ياريت