جمال دربك

الواقع والمؤامرة فى مصر الثورة

السبت، 19 نوفمبر 2011 10:44 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
غالبا ما تنهار نظرية المؤامرة أمام الرؤية التحليلية الموضوعية للوقائع والأحداث.. ولكن فى مصر الآن يتشابه الواقع والمؤامرة بصورة يصعب معها الفصل أو التمييز بينهما فى كثير من الأحيان، فيصبح الواقع من فرط تعاسته أشبه بالمؤامرة، ونصبح نحن جميعاً، أى شعب مصر، وكأننا أدوات أو أبطال أو مشاركين فى التآمر على الوطن بعلم أو بجهل، ولكن فى كلتا الحالتين، تبدو المحصلة واحدة وناصعة بلا التباس، وهى رداءة المسعى والمقصد والنتيجة، حيث تتصادف وتتحالف وتتكاتف وتتزامن كل عوامل الرداءة، لتشكل كل هذا القبح الذى نحياه فى كل مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وأيضا الدينية، كما أنه فى ظل هذا الخلط والاختلاط واللبس والالتباس، تصبح أيضا المؤامرة هنا شديدة الشبه بالواقع، وكأنها جزء منه، حيث لا يتوقع أحد أن تجتمع كل صنوف الرداءة والقبح التى ذكرناها فى آن معا كمصادفة تاريخية، دون أن تكون هناك أصابع جهنمية تخطط وتنفذ وتدير بخبث كل هذا التشوه الذى نشهده ونعيشه فى مصر المحروسة، منذ أخلى الثوار شوارعها قبل أن يستوثقوا من نجاح ثورتهم.

ولكى نتعرف على مناطق الالتباس والتداخل، أو التشابه بين الواقع والمؤامرة فى مصر علينا أن نقرأ الأحداث لنعرف أننا إما فى مؤامرة قديمة بدأت منذ ثلاثين عاما، والآن تتبدى نتائجها، أو أن المؤامرة بدأت بعد الثورة لخطفها وسحقها ومن ثم إفشال مصر كدولة وشعب إلى الأبد.
لا شىء فى مصر الآن يشبه الثورة، ولا شىء فيها أيضا يشبه التخطيط لأى نجاح، أو حتى يشبه القدرة على النجاح. رغم أنه كما يبدو ظاهرياً أن هناك خطوة اتخذت فى اتجاه إنجاز العملية السياسية، وهى خطوة الانتخابات.. ولكن من الحكمة هنا أن نتوقف ونرى ونتساءل: هل ستنجز هذه الخطوة فعلياً، أم أن هناك خطة خفية لإجهاضها قبل، أو قبيل أن تتم؟ حيث تلوح العديد من المؤشرات على ذلك الآن فجأة وبالتزامن.

فالواقع المجرد يقول إن غياب الأمن أو تغييبه، و"الحروب الأهلية" المصغرة والمتشابهة التى تناثرت وتزامنت فى وجهى قبلى وبحرى معا، قد يعيق القدرة على إتمام العملية الانتخابية فى موعدها، أو إتمامها ولكن فى ظل فوضى عارمة قد توقفها، أو تبطلها بالطعون بعد إتمامها، والنتيجة فى كل الحالات واحدة، وهى إلهاء الشعب والسياسيين فى المشاكل، وإلهاء الوطن فى الكوارث من أجل إسقاطه وإفشاله، وليس فقط إفشال العملية السياسية فيه.
هذا إذن هو الواقع الذى لا يمكننا أن نغيره بسهولة، حيث إن شعبنا الذى أفسدته عقود الفساد هو من يفعل، وليست مؤامرة خارجية ينفذها غرباء، ولكن ربما تكون خارجية تحالفت مع داخلية لتنفيذها، وهو ما تقوله أيضا نظرية المؤامرة، التى ترى جهاز الشرطة فى مصر الآن خنجراً فى خاصرتها وخاصرة الشعب، لأنه ببساطة من كان يقتل المواطنين ويسرقهم ويهينهم، فلن يضيره الآن أن يفعل أى شىء آخر، وهو من كان يشرف على تزوير الانتخابات عبر عقود مضت، وخان أمن الوطن والمواطن عند الأزمة، فلماذا لا يفعل ذلك عشرات المرات، مادام نفس الأشخاص، ونفس الأفكار، ونفس المنهج، ونفس البنية العقلية هى من تقوم بنفس العمل بداخله.

إذًا حسب القراءة الواقعية يبدو سلوك المصريين منذ قيام الثورة وحتى الآن سلوكًا رديئًا، ويفتقد الوعى والوطنية والحكمة، وهو ما سيؤدى إلى تلك النتائج التى توصف بكل هذا القبح والتشوه.. أما حسب نظرية المؤامرة، فهو سلوك مدبر لحساب جهات لا يحلو لها قيام دولة ديمقراطية محترمة فى مصر.

إذن تتماهى هنا حدود الصورتين، لتصبحا كالأصل والمرآة، يصعب التمييز أو التفريق بينهما، ولكن آفة مصر والمصريين حتى الآن، أنهم غير قادرين على مواجهة أنفسهم بالحقائق عارية بلا تجميل ولا تزييف.. حيث اعتاد المصريون منذ أزمنة بعيدة على تزييف واقعهم الردىء بدعوى تجميله، ثم بعد ذلك يصدقون هذا الزيف، ولا يريدون مواجهة أنفسهم به، وبالتالى تتواصل حالات الكذب وخداع النفس إلى ما لا نهاية.

فالكل يرى ملامح انقلاب على الثورة، وهو ما يعتبر بكل المقاييس عملا معاديا للشعب والوطن.. والكل يلمس غياب الإرادة لدى صانعى القرار فى تحقيق إصلاح أو تطهير أو تطوير حقيقى للحياة فى مصر.. والكل يشعر بطعم السم الذى يحقن فى خلايا المجتمع قطرة قطرة، ولكن أيضا يرفض هذا الكل تصديق ذلك، أو يحاولون عدم تصديقه، لما يترتب عليه من مسئوليات وطنية شديدة القسوة، لا تتطلب حراكاً سياسياً فحسب، بل تحركا ميدانيا سريعا وحاسما لمواجهته، دفاعا عن الوطن والمواطن، وعن الحاضر والمستقبل، ولكن هذا التحرك -بلا شك- سوف يفضى إلى ثورة أخرى، ربما أكثر يقظة وحسما، ولكنها أشد عنفا، وربما دموية.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة