اعتقدوا أنهم أخذوا الثورة بعيدا عن الميدان، اعتقدوا أن «إسفين» طارق البشرى أثمر، وأنه آن الأوان لتقاسم السلطة بين الذين يظنون أنهم «أصحاب التوكيل الرسمى للدين الحنيف» والمجلس العسكرى، وأنه آن الأوان لطرد الثوار من المستقبل، اعتقدوا أنهم نجحوا فى نشر الإحباط وسط القوى الديمقراطية التى أرادت تغيير النظام بصدق، وتعمل بدون كفيل عربى أو أمريكى أو أوروبى أو محلى، اعتقدوا أن مصر الكبيرة يمكن اختطافها بالبلاغة الفارغة ولحوم الأضاحى والمزايا المقدمة لمنظرى المجلس العسكرى بالفضائيات.. اعتقد الإخوان والسلفيون أنهم انتصروا بتحالفاتهم المتقطعة على مسلمى مصر من القوى الأخرى وأقباطها وأطفالها وشيوخها وعلمائها ومرضاها وأسر شهدائها، وأنهم وضعوا البرلمان المقبل فى جيوبهم، اتفقوا على عدم مدنية الدولة وعلى عدم المساس بسلطات العسكر الطاغية، ولكنهم لم يعرفوا أنها كانت ثورة حقيقية، وأن الذين استشهدوا لن يقبلوا بتقاسم السلطة بين الذين لا يريدون مصر ديمقراطية مدنية حديثة تؤمن بالتعددية والتنوع، دولة رحبة تسع الجميع لا يبتز فيها أحد أحدا باسم الدين أو اللون أو الجغرافيا.
لم يعرفوا أن الشهداء الذين سقطوا فى يناير أو ماسبيرو يمتلكون عزوة قادرة على مواجهة الرصاص الحى وغاز الأعصاب، وأن طاقة روحية عارمة تقود الشباب إلى الشهادة دفاعا عن الحق لم يعد مقبولا إهانة أحد، هم لا يعرفون هذا، فى المقهى كان يجلس رجل خمسينى يدخن الشيشة بشراهة، كان هاربا مثلنا من الدخان المستورد الغريب فى الميدان، نظر إلى - أنا وإبراهيم عبدالفتاح - وقال: «عاوز أغير دخان الغازات شوية.. أصل الشيشة أرحم»، وفتح كيسا بلاستيكيا كان معه وأخرج عينتين من القنابل التى التقطها من شارع محمد محمود، صورهم الشاعر زين العابدين فؤاد وانصرف.. الرجل قال لنا إنه لا علاقة له بالسياسة، وأنه ميسور الحال ولا يريد شيئا من أحد ويمتلك سيارة نقل «قلاب»، ونزل الميدان هذه المرة لأول مرة لأنه شاهد شهيدا تتم جرجرته وإلقاؤه فى القمامة، وأنه يحلم بالشهادة حتى لا يتكرر هذا المشهد فى المستقبل، لم يعرفوا أن ثورة يناير هى ثورة كرامة، وأن خسائر البورصة والانفلات الأمنى المقصود ومراوغات القائمين على حكم البلاد لن تطفئ النور الذى أضاءته الثورة، لم يعرفوا بعد أن الانتخابات البرلمانية لا معنى لها، لأن البرلمان الذى يقام على الغدر فى مرمى الثوار.
لم يعرف الإخوان باستثناء قطاع كبير من شبابهم الأنقياء أن مصر تغيرت بالفعل، وأن المستقبل ليس صفقة يتم إبرامها فى الظلام، حتى «الدومينو قفلت»، وأن السؤال الذى يطرحه حكماء الماضى فى الإعلام «وماذا بعد؟»، لم يعد مهما، المهم هو تغيير النظام وآلياته ونظرته الفوقية وإحساسه بالأبوة تجاه ضحاياه، ليس مهما تسمية رئيس الوزراء الجديد أو رئيس الجمهورية، المهم هو استجلاء معنى ميدان التحرير، الذى أصبح الوجود بداخله استفتاء للضمير، الذى يعبر عنه الشباب بدمه، فى مواجهة النظام نفسه، فى الأسبوع الماضى يواصل الشباب تقديم الدروس السامية لنا، ونجح فى انتشالنا من الإحباط الذى أغرقنا فيه المجلس العسكرى منذ ستة أشهر، الشباب الذى اختصر ببلاغته الخاصة الطريق إلى الحق، متأكدا أن الله الحق سينصره ويسدد خطاه، لكى تعبر مصر بأمان إلى ما يريد أهلها «كرامة.. حرية.. عدالة اجتماعية».