وقف الرجل المسن داخل لجنة الانتخاب بالهرم حائراً، ولما سأله القاضى قال له: أنا أبحث عن النحاس باشا. فقال له القاضى: النحاس باشا مات، الله يرحم،ه عندك قائمة الوفد.
القصة قد يراها البعض نكتة، والرجل بعد سنوات وعقود مايزال متوقفا عند الماضى، وهو معذور لأن حزب الوفد نفسه فى الإعلانات الانتخابية يقدم سعد زغلول والنحاس ويتوقف عند فؤاد سراج الدين، ويقول إن الوفد مستقبل له ماضى. وإذا كان الحزب نفسه لا يجد فى الحاضر ما يمثل إضافة إلى المستقبل يكون الناخب معذورا وهو يبحث عن النحاس باشا أو سعد زغلول.
القصة تعبير عن واقع نعيشه فى السياسة بشكل عام، فكل معاركنا وقضايانا تنتمى إلى الماضى، والمستقبل مستبعد اختياراً أو اضطراراً. نحن نعانى من آثار التسلط طوال عقود، وثلاثين عاما تجمدت فيها السياسة، وانتشر الفساد، ونحتار بين الرغبة فى محاسبة نظام مبارك الماضى الذى مايزال مستمراً، وبين مواجهة مشكلات الحاضر، وبنائه بشكل ينقلنا للغد وينتشلنا من الأمس. لم يقل أحد كيف يمكننا أن نحاكم مبارك ونظامه، وفى نفس الوقت نسعى لتحقيق أهداف الثورة فى إقامة نظام الحرية والعدالة والمساواة.
وبالتالى ليس الوفد وحده هو الذى يقدم الماضى من أجل المستقبل، بل إن كل المعارك السياسية الدائرة الآن على الساحة تدور على أرضية الماضى أو ضمن خلافات حول الماضى. المعركة بين الليبراليين والإسلام السياسى تدور حول الماضى، بعض السلفيين مثلاً يتصورون أن النجاح فى المستقبل هو أن نعود إلى دولة فى الماضى، متناسين أن الرسول عليه الصلاة والسلام فى زمنه كان هو المستقبل ضد القيم الجاهلية، وأن العالم تغير وشكل السلطة تغير ويحتاج إلى اجتهادات. ولا يختلف الليبراليون واليسار فى هذا الأمر، فهم يخوضون معاركهم إما حول الماضى، أو بأدوات قديمة عفا عليها الزمن الوفد يقف عند النحاس، والناصريون عند عبد الناصر، بالرغم من أن كلا منهما نجح لأنه قرأ المستقبل ولم يتوقف عند الماضى.. عجزت القوى السياسية عن التوافق على أفكار وبرامج بالرغم من وضوح الأهداف، فشل الوفد والإخوان ومعمها الليبراليون والأحزاب الجديدة والقديمة فى إقامة تحالف انتخابى وتشتتوا إلى كتل وتحالفات صغيرة تواجه بعضها طمعاً فى المقاعد، وهو نفس ماكان يجرى فى الماضى القريب، لم يروا أن تحديات الواقع لا يمكن لتيار أو فرد أن يتحملها وحده، يتحدثون عن الوطن وعيونهم على مصالحهم الشخصية، والنتيجة أن المجتمع انقسم من حيث يجب أن يتوحد، ظهرت الصراعات والطائفية وهى أمراض من نظام مبارك الذى عزل الناس عن السياسة واحتكرها كما احتكر رجاله المال والأرض والفرص.
مازالت صورة حسنى مبارك تسيطر على الأمور، ولا يمكن أن نلوم شيخا يبحث عن النحاس فى القرن الواحد والعشرين، لأن السياسيين يقفون عند القرن التاسع عشر.