ماذا نفعل الآن؟ لـمَن نلجأ، بعد الله، ليُنجينا مما نعانى منه كمصريين، وتعانى منه مصرُ من تهتّك فى أوصالها؟ لـمَن نشكو تعرية بناتِنا وسحلهن فى الشوارع إذا ما كان ساحلوها فوق القانون وفوق المُساءلة؟! وإذا ما سلّمنا أننا، شعب مصر، نرفض بحسم تدخّل أى يد أجنبية تحاول إيهامَنا بأنها اليدُ المنقذة، ذاك أننا نقرأ التاريخَ ونعلم يقينَ العلم أن لا يدَ خارجية تدخل إلا لتستعمر، وإن لبست قناعَ المُخلِّص الطيب، إذا سلّمنا برفضنا الجماعىّ تعرية حكّام مصرَ أمام العالم، فكيف بوسعنا أن نتعامل مع من يُعرّون مصر وأبناءها أمام العالم؟
يقول المثل المصرى الحصيف: «اللى تعرف ديّته، اقتلْه»، فهل ينتهج صانع القرار فى مصرَ الآن ذلك المثل فيقتل أبناءنا كل يوم لأن «ديته» بسيطة؟ مجرد بضعة آلاف من الجنيهات لأسرة كل شهيد، واللهُ غفورٌ رحيم هل بات المواطن المصرى يساوى لدى حاكمه حفنة من الجنيهات؟! وفى سوق البيع والشراء، كم تساوى «كرامة» المواطن، وكرامة الوطن؟ كرامة مصر التى انحنى العالمُ بأسره أمام حضارتها التى علّمت البشرية، كم تساوى لدى حاكم مصر؟
هل يندسّ بعضٌ من أزلام النظام القديم والبلطجية وسط المعتصمين والمتظاهرين الشرفاء؟ نعم، دون شك وقد شاهدتهم بعينى، مثلما بالتأكيد شاهدهم كل من ذهب إلى التحرير وشارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء، شاهدنا وجوهًا ليست تشبه وجوه المصريين إنما تشبه الخارجين على القانون ممن يحملون سمة «مسجل خطر»، يفعلون أمورًا تُغضبُ الله وتجرح الجمالَ والفضيلة، يحطمون منشآتنا ويحرقون منجزاتِنا ويهدرون ثورتنا ويصدّعون وحدة صفّنا نعم موجودون وعلينا جميعًا مجابهتهم وتوقيفهم ومنعهم من تمزيق ثورة يناير الشريفة ولكنْ، هل من أولئك البلطجية رجلُ دين فاضل، وعالِمُ أزهر وفقيه نابه اسمه الشيخ «عماد عفّت»، الأمين العام للجنة الفتوى بدار الإفتاء، لم يكن من شاغل له إلا إرضاءُ ربه بنشر المحبة والسلام والوعى الرفيع بين عباد الله؟! بأى ذنب قُتل ومن يُعوّضنا عنه؟ هل من بين البلطجية فتياتٌ ضعيفات وأطباء تم اعتقالهم وهم يداوون جرحانا ويسعفون مصابينا؟!
ثم يحقّ لنا أن نسأل: البلطجية والخارجون عن القانون أولئك، نتاجُ مَن؟ مَن الذى أفرخ ملايين من أطفال الشوارع على مدى عقود طوال تحوّلوا الآن إلى قطّاع طرق ولصوص؟ أليست حكوماتُنا السعيدة، حكومة إثر حكومة؟ ألم ننبّه جميعًا قبل سنوات حتى بُحّ صوتنا من أن كل طفل شوارع من أولئك إن هو إلا قنبلةٌ موقوتة ستنفجر فى وجه مصر بعد برهة؟ ألم ننبّه من ثورة جياع ستجتاحُ مصر قريبًا تأتى على الأخضر واليابس، إن لم تُسنّ أسسُ العدالة الاجتماعية وإن لم ينصلح حال التعليم وتعقّب المتسربين منه وإن لم يُقضَ على البطالة وإن لم يُفعّلُ القانون؟ هل تفاجئنا بوجود بلطجية تمّت صناعتهم بمعرفة الدولة على مدى خمسين عامًا وحتى حال التعامل مع البلطجية والخارجين على القانون، هل يجيزُ أىٌّ من دساتير العالم، بما أن مصر لا دستور لها حتى الساعة، أو يُجيزُ القانون أو شريعةُ السماء التعاملَ معهم بالسحل والضرب بالعصا وتمزيق الملابس والتعرية والدهس بالمدرعات وبالأحذية الميرى الغليظة؟! أم بالتوقيف وإلقاء القبض عليهم ثم تقديمهم للقضاء العادل، وإعادة التأهيل النفسى والسلوكى للنشء منهم من صبية البلطجية قبل أن يصبحوا عتاة فى الإجرام؟ هل نُقابلُ البلطجةَ بالبلطجة؟ ونعاقب الخارجين على القانون بالخروج على القانون؟! إلى متى سنظل ننتقل كشعب من غَشْمٍ على يد حاكم إلى غشم على يد مَن يليه؟! ما المطلوب أكثر من ثورة عظيمة أبهرت العالم مثل ثورة يناير لكى ننال آدميتنا وكرامتنا وحقوقنا التى تفنن حُكّامنا فى سُبل إهدارها جيلاً بعد جيل وعقدًا بعد عقد؟ لمن نشكو صانع قرار يُهيننا ويمتلك، فى ذات الوقت، السلاحَ الذى يسفك به دماءنا؟ مَن يعوّضنا عن دماء شهدائنا وعيون مصابينا وممتلكاتنا الحضارية التى أُبيدت؟ ومَن يُرجع لنا عقل مصر وذاكرتها التراثية النابهة المتمثلة فى المجمع العلمى المصرى الذى احترق بما يحمل من نفائس وكنوز؟ ومَن يعيد لنا كتابًا استثنائيّا اسمه «وصف مصر»؟! العنف الذى واجه به الجيشُ المعتصمين والمتظاهرين وكذلك البلطجية على السواء، بوضعهم فى سلة واحدة صالحًا مع طالح، بدل القبض الهادئ على مثيرى الشغب دون استخدام الضرب والسحل، هو الذى أشاع الفوضى وأذكى روح الانتقام التى دفعنا ثمنها من كنوزنا وتراثنا.
ليست لدىّ إجابة عن السؤال الذى افتتحتُ به مقالى، إلا أن نردد مع مصرَ الدعاءَ الذى ناجى به الرسولُ ربَّه يشكو إليه غِلاظ القلب: «اللهم أشكو إليكَ ضعفى وقِلّة حيلتى وهوانى على الناس».