د. بليغ حمدى

حصاد عام ثائر

الجمعة، 30 ديسمبر 2011 10:22 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ساعات قلائل وتنقضى هذه السنة الميلادية المسماة بالسنة الحادية عشرة من الألفية الثالثة، وهى سنة ربيع الثورات العربية ونسيم الحريات الذى هب على بعض الدول العربية فكان رياحاً طيبة على بعضها مثل تونس، وكان ولا يزال ريحاً صرصراً عاتية كما فى مصر.

مر العام وكأنه كما أظن وأعتقد وغيرى كثير أنه من أطول الأعوام التى مرت على مصر، وهو عام ملىء بالأحداث التى لا يستطيع مقال واحد أن يرصدها ويسردها فى نقاط حتى ولو برموز مشفرة ذات أكواد خاصة.

وربما بدأ هذا العام أحداثه بالاحتفال الأخيرة للشرطة المصرية، لأنه فى نظرى أن الوزارة ستستحى أن تقيم احتفاءً لها يمجد ذكرى ضباط الشرطة بالإسماعيلية التى صارت عيداً لهم، بسبب أصابع الاتهام المستدامة الموجهة إليهم منذ أحداث قتل المتظاهرين فى ثورة يناير.

ولعل أبرز أحداث العام الذى يشرف على الانتهاء هو سقوط حكم الرئيس السابق مبارك وأسرته ونظامه السياسى والأمنى وتشريفهم جميعا باستثناء الرئيس المخلوع مبارك عنابر المساجين بسجن طرة، وكذلك برزت فعاليات محاكمة مبارك رموز النظام السابق كأهم مشاهد هذا العام، والتى بلا شك ستظل علامة فارقة فى تاريخ المصريين.

ويمكننا باختصار شديد أن نحدد بشىء أشبه بجوائز الأوسكار أو الميوزيك أورلد أهم وأظهر وأزهر أيضاً مشاهد هذا العام الثائر حقاً.

وعلى رأس هذه المشاهد تظهر لنا الأحزاب السياسية التى لا أعتقد أن المواطن المصرى البسيط يستطيع أن يسردها سرداً تلقائياً، وهذا يعكس فشل الأحزاب التى لم وربما لن تصل إلى هؤلاء البسطاء، لأنهم إما يتخيلون أنفسهم أنهم يحدثون النخبة فقط، أو لأن خطابهم السياسى والحزبى وُلد فجأة بغير مخاض. ويكفيك أن تحكم على هذه الأحزاب التى تشبه أنواع البلح من حيث النوع واللون والطعم أيضاً، بما قدمته للشارع المصرى دون الإشارة إلى أكياس السكر وزجاجات الزيت واللحوم رخيصة الثمن، أنا أتحدث عن حراكها الاجتماعى من ما قدمته من تنمية للمجتمع ومن دعم لأولئك الصبية الذين رأيناهم فجأة يرشقون الضباط والجنود بزجاجات المولوتوف، وبقطع الحجارة.

وربما ظهور التيارات الدينية بشدة وبوضوح الظاهرة الأكثر وضوحاً ، وهذا الظهور المبالغ فى درجة وضوحه وشدته ونصوعه لم يعد غريباً فى ظل نظام سياسى اعتاد أن يكبل كل اتجاه دينى يفتش فى أوراقه ـ النظام السابق ـ أو ينادى بخطاب سياسى غير الذى اتفق عليه فى غرفة أمانة السياسات بالحزب المنحل.

ولكن هذه التيارات لم تلبث وأن تحولت إلى اتجاهات وأحزاب سياسية استطاعت أن تقدم مزجاً لطيفاً بين الدين والسياسة، وواكبت ظهورها حملة من التصريحات المتلاحقة كالضربات المتتالية فى لعبة الملاكمة حول السياحة والزى الشرعى وتعاملات البورصة والبنوك، ومعاملة أهل الذمة والجزية التى ستفرض عليهم وغير ذلك من التصريحات التى نسبت إليها حقيقة أم رأياً أم مجرد مظان أطلقها الليبراليون عليها.

وإذا كان الحديث عن ظاهرة التعدد الحزبى للتيارات الدينية فى مصر فإن الفتاوى العجيبة والغريبة تسيدت المشهد الاجتماعى فى عام ثائر حقاً لم يكتف بإسقاط نظامه فقط، بل أراد أيضاً أن يسقط العقل من حساباته فقرأنا وسمعنا فتاوى جعلتنى لا أفزع من ابنى الصغير باسل حينما يعلن عن رأيه فى جده مثلاً أو فى مدرسته أو فى مجتمعه، فالفتيا أصبحت مرتعاً خصباً لكل من تحرك لسانه بفمه.

وبعيداً عن الأحداث الثورية التى شهدتها شوارع مصر المختلفة وأحداث مجلس الوزراء، يمكننا أن نطلق على هذا العام الثائر بأنه عام الجمع أو الجمعات الشعبية، فلقد استطاع الشعب المصرى أن يصبغ يوم الجمعة بنكهته الفريدة فكان يتظاهر ولعله سيستمر فى تظاهره العام المقبل أيضاً عقب الانتهاء من صلاة الجمعة وربما كان قبلها أيضاً، وكان فريداً فى تسمية هذه الجمع بأسماء قام بتصديرها أيضاً لبيقية الدول التى لا تزال تصارع جاهدة فى إسقاط نظمها السياسية.

فرأينا الرحيل والغضب واسترداد الثورة ورد الشرف وجمعة النقاب التى كتبت فيها مقالاً باليوم السابع ، وجمع الفرصة الأخيرة، وجمعة عودوا لثكناتكم، وغيرها من الجمع التى لا تقدر ذاكرتى على التقاط مسمياتها الفريدة.

ولن أتطرق للظاهرة الانتخابية التى تجتاح مصر حالياً لأنها أصبحت هوساً محموماً ضاقت به الصحف كما ضاقت بها الشوراع والتى شكلت بالدعاية الانتخابية نموذجاً صارخاً للتلوث المرئى والبيئى.

وفى ظل التفوق الخليجى اللافت للانتباه نرصد فى عامنا الثائر تراجع حالة الإبداع المهنى والثقافى والفكرى، بل يمكننا أن نؤكد قلة عدد المبدعين هذا العام اللهم إلا الذين قفزوا فجأة على الإبداع مرتدين عباءة الثورة فلم تخرج إبداعاتهم الأدبية والفنية والموسيقية عن التغنى بالوطن الذى هو بحاجة إلى بنائه وإعماره.

وربما إلغاء معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى يعد تظاهرة ثقافية تعادل جمع التحرير والعباسية ومصطفى محمود قد أسهم فى غياب الحراك الثقافى والإبداعى بوجه عام.

والحقيقة أن هذا التراجع الحصرى الذى مررنا به فى عام ثائر لم يواكبه ثورة فى النظم التعليمية المصرية، وكأن مبارك أخذ معه سياسات التطوير التعليمى وهو بمحبسه الطبى، فالإبداع بصوره لم ترتبط بنوعية المناهج التعليمية التى تقدم لأبنائنا، وأنا أكاد على مضض أشير إلى ربط الإبداع بالحالة التعليمية فى مصر أو أى وطن عربى بمستوى وكيفية التعليم وأنظمته، وخاب من التربويين الذين تعلمت على أيديهم حتى حصولى على درجة دكتوراه الفلسفة فى التربية من ادعى أن السياق التربوى والتعليمى الذى يعيش الطالب فى كنفه يخلق منه مبدعاً،
لأن الإبداع حالة غير موجهة، وسلوك يحركه الذهن والمزاج معاً، وهو يخضع لمرور الإنسان لخبرة غير مقصودة، بخلاف النسق التعليمى الذى يُخضع الطالب والمتعلم لخبرات موجهة تشكل فكره واتجاهاته من أجل إعداده إعداداً شاملاً ومتكاملاً لمجتمعه.

ويمكننا أن نعطى جائزة أسوأ ظاهرة مصرية لا تنقضى من تاريخنا الجمعى للبيروقراطية الوظيفية التى لم تستطع الثورة فى القضاء عليها، وجائزة أسوأ مخرج للحكومات المتعاقبة منذ انداع الثورة عن فيلمها الطويل بعنوان غياب الصدق وبطء السلحفاة.

وإذا كانت الثورة الشعبية هى أبرز مظاهر عام 2011م، فإن البرامج الحوارية المعنونة بالتوك شو كانت الأفظع شعبياً أيضاً، فأعتقد أنه لا يوجد مواطن مصرى لم يظهر فى التلفاز هذا العام، أو لم يطل علينا بصوته عبر أثير المذياع، وكأن وجه وصوت المواطن المصرى بدءاً من النخبة انتهاء بعم طلبة الجناينى هو طابع بريد هذا العام دونما منازع.

وكنت أرغب فى أن أشاهد برنامجاً حوارياً يتحدث عن ابنى بالمدرسة وعن ابنة جارتى التى تذهب للجامعة التى تفرغت للانتخابات الداخلية والبرلمانية وصراعات المقاعد الأكاديمية، وعن الزراعة التى أصبح أحد ضحاياها كيلو الثوم الذى بلغ فى بعض الأسواق خمسة عشر جنيها، وعن المصانع التى تبدلت كوجوهنا.

وربما سأعطى بصفة شخصية جائزة أفضل حضور لآذان المصريين الذين استمتعوا بأغنية الملك محمد منير (إزاى).

ورغم ضياء الصورة التى حملتها لنا السنة الحادية عشرة فى الألفية الثالثة من تهاوى نظام فاسد، فأن هناك حلكة قاتمة تقبع فى الصورة ذاتها، وتظللها حالة من الغموض تمكث فى كنف الدستور والبرلمان القادم والرؤساء المحتملين وخطط حرق مصر.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة