إذا كان ديكتاتوراً واحداً قد فعل ما فعل فى دولة عربية واحدة على مدى ثلاثة أو أربعة عقود، فماذا يمكن أن يحصل لدولة سيحكمها ملايين الطغاة فى وقت واحد..؟
لطالما كانت المشكلة الحقيقية فى المجتمعات العربية، تلك الأنانية المفرطة التى تحكم عقلية الفرد فى مجتمع تسوده الأهواء والمصالح الشخصية، ورسخت لديه القناعة التى تقول "أنا ومن بعدى الطوفان"، لكن الثورات الوليدة فاقمت من ارتجالية المهمشين، وبلورت حالة أكبر من (الأنا) المتعاظمة، ومكّنت الشعوب، التى استوعبت بنرجسية متنامية قدرتها الجمعية المذهلة، على تغيير واقعها السياسى، لكنها لم تدرك أو ستدرك متأخرة أنها باتت ضحية لمعركة طاحنة تجرى فى الخفاء بين توازنات القوى فى الداخل، والموزعة أركانها على ما تبقى من شعارات سياسية عذرية ينتظر تسويقها لدى الناخبين الجدد.
وعلى عكس الثورات التقليدية السابقة التى شابت فترة ما بعد الاستعمار، واستندت إلى الانفعالات الملحمية الناجمة عن قهر المستعمر، يفتقد تسونامى الثورات العربية إلى المخيلة الواسعة التى شكلت بواعث المشاعر القومية والوطنية فى فترة عقدى الخمسينيات والستينيات فى أعقاب موجات التحرر الوطنى، وخلقت إيمانا مطلقا بالثورة، وانضباطية جماهيرية لتحقيق أهدافها، وإن كانت تلك الثورات مجرد حركات انقلابية نخبوية على أجنحة عسكرية.. إلا أن الثورات الحالية تظل "براغماتية" وناقمة، تأخذ بشرط المقايضة، ولا تؤمن كثيرا بمبدأ المواطنة الذى اضمحل تحت وطأة الحاجة والبؤس والقنوط، فكان أن غابت الرومانسية عن الثورات الحالية، التى تجردت من النفسية الحالمة، فتحولت إلى ثورات موتورة غاضبة، تعانى من عقدة جلد الذات، والنقمة المفتوحة على جميع الاحتمالات، والارتياب المرضى من المستقبل، لتقترب مع مرور الزمن إلى "الغوغائية" بدلا من تنامى قدرتها الذاتية على إعادة ترتيب نفسها، فتصبح أكثر انسجاما وقدرة على الصفح.. وزادت بالتالى الفروقات والتناقضات بين مكونات المجتمع مع التقدم أكثر فى تطبيقات الثورة، لينتفى الهدف الجماعى الأصلى الذى كان سببا فى انفجارها، لصالح أهداف ثانوية تخدم فئة على حساب أخرى، وتخلق حالة التصدع لأى سبب كان (طائفى أو طبقى أو عرقى).
وفى المحصلة تبدو الثورات بتداعياتها أشبه بتيارات الماء المندفعة، والتى تأخذ فى مساراتها كل شيء، متجهة بانسيابية عفوية إلى المناطق المنحدرة، والسهلة، فتغمر كل ما يمكن غمره، ولا تصل إلى المرتفعات، بمعنى آخر؛ ثورات تأخذ دفقها من ردة الفعل العشوائية أكثر من التوجيه المنهجى.
وفى الوقت نفسه، لا يمكن فصل الواقع المجتمعى عن مقدماته التاريخية التى أحالته إلى أجزاء متناثرة لا تلتقى إلا على شعار "قلب الطاولة" الذى يحتاج إلى مجهود جماعي.. ففساد الأنظمة البائدة، وسياسة الاستحواذ التى انتهجها المتنفذون وفق السلطات التى كانت ممنوحة لهم فى ذلك الوقت، بالإضافة إلى تحويل الوطن إلى رزمة مصالح مادية عبر برامج الخصخصة الفاسدة، ورأسملة الدولة بطريقة نفعية، كلها عوامل حولت الوطن إلى شركة استثمارية آيلة إلى السقوط تتنازعها الأيدى الجائعة بشىء من العبثية والجنون، وخلقت سلوك القطيع فى ذهنية المواطن العربى بضرورة المسارعة إلى استغلال حالة الانفلات الأمنى الطارئة، وانهيار حواجز الخوف، لأخذ المبادرة من أجل استعادة ما يمكن تحصيله من حقوقه المستلبة حتى لو كان ذلك بشكل اعتباطى ومنفرد.
مسئول الإعلام فى منظمة المؤتمر الإسلامى(*)