لم يستطع خيالى مهما ارتقى أن يصل إلى حالة السمو الذى عاشه الشعب المصرى أثناء الجولة الانتخابية الأولى والكبيرة، التى جرت خلال يومين، وأثبت فيها المصريون أنهم مسؤولون وأنهم فوق الشبهات وأنهم شعب قوى صامد صبر طويلاً على الكذب والخداع والتزييف، ولكنه فى النهاية ها هو يقرر مصيره وينتصر لإرادته ويعبر عن رأيه بعمق وحرية.. ما حدث فى انتخابات البرلمان، هو عبور من النكسة إلى الانتصار عبر جسر من ذهب صنعه الشعب من أصالته وحبه وتماسكه.. لقد انتصرت هذه الانتخابات على كل أشكال التزوير والبلطجة والطائفية، وظهرت جذور مصر الحقيقية لأول مرة منذ سنوات طويلة جداً.. هذه الجذور التى حاول كثيرون من حكامنا طمسها وتدميرها، هى سنوات الغمة والحزن.. انتصرت الانتخابات برغم أن البعض حاول إفسادها وتدمير الشكل الحضارى الذى ظهرت عليه، نعم أنا اليوم أعتبر هذا اليوم هو يوم عيد، أنا متفائل.. وأحس بأن مصر تولد من جديد، تولد فى أحلى ثوب وأنقى صورة وأرقى ضمير.. اليوم خرج الشيوخ والنساء والمرضى يتماسكون ويجرون على كراسى متحركة وبمساعدة رجال الجيش والشرطة البواسل.
اليوم مصر تعرض كل أوراقها على المنضدة بدون مواراة وبدون تقييد، لم تعد هناك قوى سياسية تلعب تحت الأرض ولم تعد هناك أحزاب فى المعتقل، ولم تعد هناك أسرار.. كنا فى الماضى القريب قد استسلمنا إلى مقولة الجماعة المحظورة، واليوم صارت حزباً على الملأ، وكنا نسمى أحزاب اليسار أحزابا تحت الأرض، لكنها خرجت اليوم وكلنا يعمل جنبا إلى جنب، ولم يعد هناك سيد فى الأحزاب يسود ويخطط ويخطف كل الأضواء ويحتل كل المائدة لصالحه ولصالح أشقائه الذين صاروا على المدى ديناصورات لا يمكن أن تقف أمامها أية قوة أو تحاول النهوض، وها هى النتيجة أنهم قيدوا مصر القوية حتى صارت بلا أى إرادة، وخلال سنوات حاولوا تدمير عظمة الشعب المصرى وحركته، وقرروا أنهم سلبيون بلا قوة وبلا ضمير، اليوم خرج الشعب كله مسلمين ومسيحيين ومن كانوا يسمونهم الأغلبية الصامتة كلهم نفضوا عن كاهلهم غبار اليأس والقلق.. وصار المشهد بارعاً حتى إن صحف العالم علقت على الانتخابات المصرية بكل تبجيل.. لقد أدهشتنى الصحف العالمية وهى تقول عن التجربة المصرية فى الانتخابات بعد الثورة إنها رائدة وشامخة وتصل إلى مرحلة الكمال.. ما حدث فى اليومين جعلنى أثق أننا سنكمل المسيرة بإذن الله على أكمل وجه.. وقد حاولت أن أتردد على مجموعة من اللجان لأتابع بنفسى هذه الملحمة الديمقراطية الراقية.. كانت مشاهد متتابعة من الفخر.. الشعب فى كامل وعيه، ولم تكن السلبيات الصغيرة سوى آثار ليس لها أى معنى فى عمق أحداث يوم خالد أعقبه اليوم الثانى الأكثر عمقاً وبريقاً فى طريق الديمقراطية.. أسعدنى خروج الإخوة المسيحيين إلى صناديق الاستفتاء بكل رضى وقناعة لأنهم يشاركون نسيج المجتمع الواحد ويصنعون الغد الأفضل ويرتبون البيت مع إخوانهم المسلمين جنباً إلى جنب نحو رؤية جديدة، اليوم نحن نرسم خريطة جديدة لوطن شهد الكثير من الكبوات والسقطات والتراجعات والانحدار، وشهد المؤامرات، وروته الدماء الزكية دماء أبنائه الشهداء فى كل موقع وفى كل بلد وفى كل قرية.. هؤلاء الذين ضحوا بشبابهم وحياتهم وأرواحهم فداء للوطن الأكبر.. هم الذين فجروا الثورة وهم الذين أعادوا لنا الاعتبار والكرامة، هؤلاء الشهداء اليوم يشهدون معنا الوطن المتكامل الذى يولد فى النور بكل ثقة وبكل حرية.. اليوم انتصر الشعب على أعدائه ولم يعد هناك تراجع لم يعد هناك عودة إلى نقطة الصفر، أعرف أن وراءنا الكثير.. وأن بعض الدول التى بدأت معنا قد سبقتنا، ولكننا مع بداية أصيلة يمكننا بعدها أن نقود بوصلة البلد إلى الخير وإلى الأعلى دائماً من خلال برلمان قوى ثم مجلس شورى منتخب عظيم ثم إلى أهم الانتخابات التى لم تعرفها مصر منذ ستين عاماً.. هى انتخابات رئيس الجمهورية والتى يجب إجراؤها فى منتصف العام المقبل.. هى انتخابات يجب أيضاً أن نستعد لها ونرصد لها العلم والفكر لكى تسير على أكمل وجه وتكون خاتمة المطاف نحو مصر القوية التى يمكن بها أن ننافس وأن نقود وأن نعيد ريادتنا التى كانت فى منتصف القرن الماضى حتى سبعينيات القرن العشرين.. لابد أن تعود مصر كما كانت الوطن الأكبر والأخت الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط داعية السلام وبؤرة العلم والدين والفلاح.