عندما بدأت ملامحُ الثورة تتشكل، راسمةً الحريةَ بدماء شهدائها، خرج علينا الرئيس حسنى مبارك ببيانه الأول، مساء «جمعة الغضب» 28 يناير، ليقدّم منحتَه الأولى بإقالة الحكومة، ووعْدٍ بالنظر فى أحكام القضاء بشأن الطعون على انتخابات البرلمان, وقتها خرج حاملو أختام النظام وأبواقُه الزاعقة يؤكدون أن الرئيس استجاب لمطالب الشعب، وطالبوا المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم كى يعمَّ الاستقرار، وتؤدى الحكومةُ الجديدة عملها، وتنفذ ما جاء فى خطاب التكليف, وبعدما عاد الرئيس مساء الثلاثاء ليعد بملاحقة الفاسدين والنظر فى تعديل مادتى الدستور 76 و77، عادوا للظهور مرددين الزعيقَ ذاتَه، ثم سيَّروا مظاهرات مؤيدة للنظام، انتهت بموقعة الإبل، وفعلوا الأمرَ ذاتَه بعد البيان الثالث مساء الجمعة 10 فبراير, فماذا عساهم سيقولون الآن بعد خروج السيد عمر سليمان فى السادسة مساء الجمعة 11 فبراير ليتلو بيانًا من 34 كلمة، أزاحت عهدًا استمر ثلاثين عامًا؟ المؤكد أنهم لن يعدموا الحيلة، وسيشرعون فى البحث عن ثغرة ينفذون منها لمداهنة النظام الجديد, فتلك موهبتهم التى لا يتقنون سواها!
الأسماءُ معروفةٌ، والوجوهُ محفوظةٌ، والتوجهاتُ والمغانم.. الشعبُ المصرى المثقف الواعى يعرفهم، لذا خرج بشعار يلخص قراره: «نريد/ إسقاط/ أبواق النظام». إذ لا مكان لهم فى حكومة برلمانية حرة تليق بمصر, فهم المصريون أن المنح ليست إلا عمليات تجميل لترقيع نظام مهترئ. تجميل يغيّر الوجوه، أكثر مما يضمن انتقال مصر إلى عصر ديمقراطية حقيقية، يأخذ فيها كلُّ ذى حق حقه، فالحكومة الجديدة، التى أصبحت الآن قديمة، ضمت نوابًا برلمانيين نجحوا بالتزوير، وأعضاء لجنة السياسات التى أودت بمصر للتردى. ونائبُ الرئيس، الذى توسّم فيه البعضُ خيرًا، أثبتت التجربة أنه لا يختلف إلا فى الاسم والملامح، بعدما أعلن لقناة ABC، أن الشعب المصرى غير مؤهل للديمقراطية! كأن الديمقراطية منحةٌ يمنحها الحكّام متى أرادوا، لا حقٌّ أصيل، وثقافة تفرز بالمراس أهليتها!
حاملو الأختام مجموعةٌ من المرتزقة، رِزْقُهم استمرارُ النظام الذى صنعهم، منهم صحفيون فقيرو الموهبة يحلمون بمواقع صحفية مرموقة: رئاسة تحرير، رئاسة مجالس إدارات، يتبارون فى مدح المتنفذين وذمّ معارضيهم، يعرفون أنهم كلما تفانوا فى ذلك تكون طرقهم إلى الكراسى أقصر، وقلما تخذلهم النظم، إذ تنتشلهم وتصنع منهم أبواقًا للدعاية. ومنهم رجال أعمال عديمو الشرف؛ يحصلون على قروض خيالية دون ضمانات، ويحتكرون قوت الشعب؛ فتتعاظم ثرواتهم وثروات المتنفذين الذين يساندونهم، يستخدمون أموالهم، عند الضرورة، لتحريك «الهتيفة» والبلطجية كما حدث فى موقعة الإبل، ومنهم موظفون كبار فى الدولة، ما إن يتلقوا الإشارةَ، يحشدوا موظفيهم فى حافلات، ليسوّدوا البطاقات الانتخابية، مشمولين بوعود مغرية ومصروف جيب سخىّ! ومنهم سياسيون، فى الحكومة والمعارضة، يبذلون أنفسهم طواعية، فى تجميل وجه الزعيم الخالد، والرئيس المُلهِم، والقائد الأعظم، فيترشحون فى انتخابات رئاسية محسومةٍ نتيجتُها، لإعطائها شرعية وهمية، أو يشاركون بأحزابهم الورقية فى انتخابات برلمانية لا نزاهة فيها، مقابل تعيينهم فى تلك المجالس، وتسهيل حصولهم، وأقربائهم، على بعض المنافع.
بضاعةُ الأبواق رائجةٌ فى النُّظم الفاسدة لأنها تجزل العطاءَ لأهلها. فبعض رؤساء المؤسسات الصحفية الحكومية جنوا الملايين من وظائفهم، بينما يعيش الموهوبون على الكفاف، كومبارسات يكررون أدوارهم فى كل فصل، فالوجوه التى غنت لجمال عبد الناصر، هى ذاتها التى استمرت مع أنور السادات وحسنى مبارك، باستثناءات قليلة تؤكد القاعدة، أما غالبية الصحفيين الشرفاء، فلم يبرحوا ميدان التحرير، وميادين الشرف الأخرى بمصر، منذ بداية الثورة وحتى أعلن مبارك التنحى، يؤدون عملهم فى تغطية الأحداث، ويرفعون شعارات الثورة، ويشرحون للفئات الأخرى أهمية ما يقومون به لمستقبل هذا الوطن، ثم قدموا لمصر شهيدًا: أحمد محمود، كفيلٌ دمُهُ بأن يغسل صفحاتِ الجرائد الحكومية الملوّثة أعوامًا.
أبواقُ النظام يأتون دائمًا بعد الحدث، لا قبله، مهمتهم الثناءُ على القرار لتمريره، ولا يلومون النظامَ إذا لم يفعل، ولا يقترحون سيناريوهات ولا قرارات، لأنهم لا يعبؤون بصالح الوطن ولا المواطن، لا يطالبون بتحديد مدد الرئاسة، لأنهم يقبعون فوق صدور مرءوسيهم عقودًا، ولا يتطلعون إلى إرساء قواعد العدالة الاجتماعية كى يضمنوا استمرار تدفق الأموال فى حساباتهم البنكية، أبواق النظام يغيّرون خطابَهم حسب مقتضيات الحال وإرادة الكرسى، هم أشدُّ خطرًا على الشعوب من الطغاة أنفسهم.
فى العهد الجديد الذى يبدأ الآن، لا أحدَ يودُّ أن يرى هذه الوجوه، وهى تعبر الفاصلَ الدقيق وهى تستعدُّ لتبديل اللغة، لتستأنف عملها الذى تتقنه جيدًا.. تحيةً لشعب مصر الجميل، ولقواتنا المسلحة الشريفة، ولكِ ثمانون مليون وردة، يا مصر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة