الاتهامات الآن جاهزة ومتوفرة، عميل مباحث متواطئ، متحالف، متكاتف، اختاروا الآن.. وهى اتهامات ليست موجهة لزعماء الفساد السياسى فى النظام السابق، أو وزراء الفساد وتوزيع أراضى الدولة أو لكبار الضباط الذين قادوا حرب إبادة ضد ثوار 25 يناير، لكنها موجهة إلى أناس يعيشون بيننا، بناء على قراءة النيات واعادة تفسير الكلمات، حالة من الإرهاب تسود الأجواء، لا تتناسب أبدا مع جلال وبراءة ثورة كانت معجزة بمقاييس السياسة والتاريخ.
تلك الاتهامات والمعارك الجانبية لا تفيد فى الواقع سوى بقايا النظام السابق وفلول الأمن التى يبدو أنها استجمعت قواها.. كما أنها تضر بأهم أهداف الثورة وتجعل الكل مهزوزًا وخائفًا ومترددًا، مع أن أهم أهداف ثورة يناير كانت كسر حواجز الخوف وإنهاء التردد ومنح المواطنين الشعور بالثقة والأمان والوحدة.
فى أسبوع واحد أصبحنا نتنفس الفضائح وانصرف كثيرون عن متابعة أخبار الفساد والمفسدين، أو الدخول فى حوارات تعديل الدستور ومستقبل المشاركة السياسية وفضلوا إطلاق الاتهامات والبحث عن الفضائح والاتهامات المجانية، فقد تحولت منى الشاذلى إلى عميلة للشرطة، لمجرد أنها قدمت حلقة من برنامج العاشرة مساء استضافت فيه بعض رجال الشرطة الذين تحدثوا عن أنفسهم وتصوراتهم وأخطائهم.. ومن حق البعض أن ينتقد الموضوع، أو يرفضه، دون أن يحوله إلى عريضة اتهام.
وفى نفس السياق وجدنا وائل غنيم عميلا لأمريكا، بناء على تسريبات منسوبة لموقع ويكيليكس، بلا أى سند ولا منطق.. وخالد صلاح عميلا للنظام السابق، لأن شخصا ما تجسس على مكالمة شخصية له، ونشرها.. ولم يتوقف الذين روجوا لها عند كونها تسجيلا تم بدون إذن صاحبها.. فضلا عن كونها تعبيرًا عن صاحبها.. لم يلفت نظرهم خطر التجسس أو توقيت النشر أو الهدف منه.. وهل يقبل أدهم أن تصبح حياته مباحة ومكالماته مسجلة.
نتوقع المزيد من الفضائح التى يقف وراءها غالبا من يريدون صرف الناس عن المستقبل إلى معارك واتهامات جانبية، وإدخالهم فى أنفاق التخوين والتكفير، حتى يبتعدوا عن أصل المشكلة، أو يفكروا فى المستقبل.
ومن يستفيد من هذه الأجواء سوى فلول القمع ومحترفى التجسس، الذى مازال قائما فى الكثير من المؤسسات بل إنه يكاد يركب على الثورة ويعوم على أمواجها.
لقد أصبحت الاتهامات والرغبة فى تصفية الحسابات تستهوى البعض أكثر مما يهمهم مستقبل البلد أو نتائج الثورة.. وكأنه لم يعد هناك أبرياء بل انتهازيون وانتقاميون، كلما خرج أحد ليتحدث عن الثورة يخرج له عشرات من كل الأركان ليطالبوه بالنزول وعدم التحدث باسم الثورة، والنتيجة أننا أصبحنا أمام عشرات اللجان والجماعات والائتلافيات كل منها يتحدث باسم الثورة، ولا يمكن أن نلوم جماعة الإخوان على تواجدها وقدرتها التنظيمية التى يفتقدها الأبرياء الذين شاركوا فى الثورة وتصوروا أنها نجحت بتنحى الرئيس وأنهم سوف ينصرفون لأعمالهم وإلى بناء وطنهم الذى سيكون أفضل.. والحقيقة أن الأمور لن تكون أفضل طالما هناك من يفضلون الاتهامات عن الحوار، ويستعذبون التخوين ويستمتعون باستهلاك فيديوهات وتسجيلات تم تسجيلها بالتجسس وتم إنتاجها بالتنصت.
تلك الهوجة أصابت كثيرين بالاكتئاب ترجع فى جزء منها إلى حالة من الصراخ والرغبة فى التشفى والانتقام وليس العقاب، تلك الرغبة فى الانتقام هى التى يمكن أن تسهل هروب الفاسدين ونجاة المتهمين استغلالا لزحام الأصوات العالية واتهامات لم تترك شخصا ولم تحترم قاعدة.
لقد كانت أحد أسباب الثورة التى استشهد فى سبيلها أجمل أبنائنا وبناتنا، وأخوتنا وأخواتنا، أن تضمن الحرية للجميع وأن تنزع الخوف والتردد وتمنح الجميع حقوقا متساوية لحرية التعبير والدفاع عن الرأى دون استثناء لكننا رأينا قبل أن تكتمل الثورة من يطالب بإقصاء ومنع كل من يختلف معهم أو يستمتع بمضغ معلومات مغلوطة أو منتزعة من سياقها، وعلى سبيل المثال فقد استمتع بعض رواد الفيس بوك بنشر خبر تم نشره منسوبا لموقع ويكيليكس الذى أصبح مصدر من لامصدر له الخبر يقول إن أمريكا جندت (وائل غنيم) لإسقاط النظام المصرى.
وتعامل البعض مع الخبر بدون تفكير ولو راجع هؤلاء الأنباء لعرفوا أن الاستخبارات الأمريكية اعترفت أمام الكونجرس أنها فشلت فى توقع الثورة المصرية، ثم أن هؤلاء أنفسهم يريدون التقليل من أهمية وائل مع أنه لا هو ولا غيره قال إنه قائد الثورة ومن الصعب أن يكون هناك قائد لثورة ضمت كل الفئات وخرجت فيها المظاهرات من أماكن لم يكن الداعون يعرفونها، والثورة ليس من نتاج وائل ولا يمكن لأى شخص أن يزعم أنه زعيمها أو المتحدث باسمها، بسرعة وقبل أن تجف دماء شهداء الثورة انطلقت حالة من الاتهام والانتقام بلا أدلة، وتنتهى بالإساءة لكل الأشخاص والمعانى وتشوه الثورة وبراءتها لصالح أعدائها.
والهدف النهائى من هذه التسريبات أن تتوه الحقائق ويهرب الفاسدون ويبقى الحال على ما هو عليه، لقد قامت الثورة ضد الظلم والتسلط والكذب وقمع الرأى والاعتداء على الحرية، والمحاسبة على النية وليس على الفعل، وهو ما كانت تفعله أجهزة الأمن.. ربما كان هذا من عمل المباحث أو أن هناك رغبة لدى البعض ليحل مكان المباحث، ويعيد ما قامت الثورة لتقضى عليه. لكن الخبر الجيد أن الأغلبية تتجاهل هذه المعارك وترى فى تلك التسريبات كلاما لا يستحق الالتفات إليه، لأنه يعطل ويخدم هواة الانتقام ومن فى قلوبهم مرض.