الذين أتاحوا الفرصة لعقولهم لترى ما خلف مشاهد ثورة 25 يناير وتركوا لأنفسهم براح التفكير لتحليل تحركات الأحزاب والجماعات والأحركات السياسية المختلفة الأيام التى تلت تنحى الرئيس زارهم الخوف والقلق من فكرة الدولة الدينية التى تطل برأسها من شباك ثورة 25 يناير، بسبب التواجد والتنظيم الإخوانى الواضح والتأثير السلفى الأوضح منه.
العين المجردة ترى السيطرة الإخوانية على مجريات الأمور منذ يوم أربعاء موقعة "الجمل" فى اليوم الثامن من أيام الثورة وحتى الآن، وحتى المصابون بعمى سياسى ليسوا فى حاجة إلى أى ميكروسكوب لمشاهدة حالة الانتشار الإخوانى فى الحياة السياسية المصرية بعد ثورة 25 يناير، ولكن بعض العيون ترى فى تصدير تلك المشاهد أو تلك الحقيقة محاولة لوأد الثورة أو تنشيط الثورة المضادة بتخويف الناس من الإخوان والحكم الدينى وباقى القصيدة التى كان يتلوها علينا النظام السابق طوال 30 عاما ليحتمى خلفها من غضبنا وغضب العالم الخارجى، وتلك العيون إما أنها لأشخاص أغرتهم نظرية المؤامرة أو لم يتخلصوا بعضاً من آثار عدم الثقة التى زرعها النظام السابق فينا، أو لأشخاص لم يدركوا بعد أن نظام الرئيس مبارك زال وانتهى وزالت معه كل الفزاعات التى كان يستخدمها للضحك علينا.
سيطرة الإخوان وطغيانهم على المشهد السياسى بعد الثورة حقيقة لا مؤامرة فيها ولا تشوبها شائبة الثورة المضادة أو إخافة الناس، كما أنها ليست مجرد ترويجا دعائيا كما يحاول أهل اليسار المصرى تبرير اختفائهم من على الساحة مقارنة بالجماعة، وما رأيته بعينك فى جمعة الانتصار فوق تلك المنصة التى سيطر عليها الإخوان وخطب من فوقها الدكتور يوسف القرضاوى، وما رأيته بعينك على مداخل ومخارج ميدان التحرير طوال أيام الصمود من جماعات إخوانية تنظم الصفوف وتستقبل الداخل وتودع الخارج، وما رأيته بعد ذلك من اهتمام مخابراتى بالجماعة ودعوة عمر سليمان لهم من أجل الحوار، ثم اهتمام المجلس العسكرى بتواجدهم، ثم تعامل صحف الحكومة ووسائل الإعلام معهم دون استخدام لفظ المحظورة الذى كان سائدا فيما قبل التنحى، بالإضافة إلى هذا التمثيل الإخوانى الواضح فى كافة الائتلافات والمجالس الخاصة مثل تواجد المحامى والنائب الإخوانى صبحى صالح ومن فوقه القريب والمحب المستشار طارق البشرى على رأس لجنة تعديل الدستور، ومشاركة شباب الإخوان بقوة فى التجمعات الشبابية المعبرة عن الثورة، ومثل التواجد المكثف لأربعة قيادات إخوانية منهم الدكتور محمد البلتاجى والدكتور حازم فاروق والدكتور وخالد عودة والداعية صفوت حجازى ضمن قائمة مجلس أمناء الثورة، ما رأيته خلال تلك الفترة وما تراه الآن من أصوات إخوانية مرتفعة ومشاريع إعلامية خاصة بهم ليس أمرا وليد الصدفة، ولكنه نتيجة طبيعية لقدرة الجماعة، على أن تكون هى التيار السياسى الذى نجح فى أن يظل متماسكا طوال عصر الرئيس مبارك الذى نجح فى تخريب وتجفيف كل منابع المعارضة والمخالفين له فى الرأى، وفى الوقت الذى يعيش فيه أهل اليسار حالة من التيه، وأهل التيار الليبرالى حالة من عدم القدرة على الدفاع عن مبادئه يحصد الإخوان ثمار صمودهم وتنظيمهم طوال سنوات القمع الأمنى الماضية التى يستغلها الليبراليون واليساريون لتبرير فشل تواجدهم فى الشارع.
هى إذن ساحة سياسية مفتوحة أمام جماعة الإخوان المسلمين لا نبالغ أن قلنا إنهم يتمتعون فيها بالأغلبية.. أغلبية التنظيم والتأثير وهى أغلبية أقوى بكثير من أى أغلبية عددية، ولكن هل تتيح تلك الأغلبية للجماعة اعتلاء منصة السلطة فى مصر؟
الإجابات الإخوانية على ذلك السؤال تأتى دبلوماسية وتنفى على طول الخط أى رغبة فى الانفراد بالسلطة أو اعتلائها، وقد تبدو إجابات الإخوان مقبولة ومفهومة، ولكنها بكل تأكيد منقوصة، لأن ترتيبات الجماعة التى نشاهدها الآن على أرض الواقع تهدف إلى سلطة من نوع آخر سلطة التوغل والانتشار فى كافة أجهزة الدولة القادمة، وإن كانت التصريحات الإخوانية قد نفت الرغبة فى الحصول على السلطة، ولكنها لم تنفِ الرغبة فى الوصاية على السلطة القادمة سواء تم ذلك بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر من خلال السيطرة على الأجهزة الهامة وزرع الإخوان فى كل مكان، وإذا كان الطموح الإخوانى مشروع بصفتهم الفصيل السياسى الأقدر على تنفيذ ذلك المخطط الآن، ولكن ليس مقبولا أن يجر هذا الطموح من خلفه ظلالا دولة دينية يسعى الإخوان لفرض تواجدها على الشكل السياسى الجديد لمصر، هنا تكمن نقطة الخلاف والفزع من الانتشار والسيطرة الإخوانية على مقاليد ثورة يناير، ففى الوقت الذى تبدو فيها مطالب القوى السياسية المصرية والشعبية واضحة بخصوص الدولة المدنية والحياة الديمقراطية فإن التواجد الإخوانى يهدد هذا الطموح بقوة فى ظل مساندة سلفية كانت واضحة فى ميدان التحرير، وفى مسيرة بسيطة بشارع الهرم، وأوضح فى ذلك المؤتمر الذى عقد فى المنصورة تحت رعاية الشيخ محمد حسان وظهر فيه لأول مرة شعار ولماذا لا تكون مصر دولة إسلامية؟
والحقيقة المؤلمة فى مسألة الدولة الدينية التى قد تأتى مع هذا الطغيان الإخوانى الذى أتاحته ثورة 25 يناير تكمن فى عدم وجود أى تيار آخر سواء كنا نتكلم عن الناصريين أو اليسارين أو الليبرالين أو حى الجمعية الوطنية للتغيير يملك قوة التنظيم أو قوة الأفراد القادرة على موازنة دفة الأمور مع جماعة الإخوان، بل ويكمن الأمر الأخطر فى الشارع المصرى نفسه الذى تسوده أغلبية ربما لا ترى أى أزمة أو مشكلة فى فكرة الدولة الدينية أو ربما ترحب بها إما خضوعا لفطرة الشعب المتدين بطبعه أو خضوعا لوطأة عدم قدرة المصريين على أن يقولوا لكل ما هو دينى لأ.. فالأمر أشبه هنا بهذه الحالة البسيطة من الخجل الذى يمنع المصريين من مناشدة سائق الميكروباص لخفض صوت الكاسيت الذى يعلو بصوت شيخ يأمر وينهى بعنف، والمتابع لحالة المد السلفى والدينى التى سادت مصر فى السنوات الخمسة الأخيرة وحالة التعلق بالفضائيات الدينية سيتفهم كثيرا خطورة أن تتحول فكرة الدولة الدينية إلى مطلب شعبى لا دور للإخوان فى تصديره سوى الترويج له ودعمه، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار هذا التاريخ العدائى بين بسطاء الشعب المصرى والمصطلحات التى يستخدها أهل التيارين الليبرالى واليسارى مثل العلمانية والدولة الدينية وخلافه.
الأمر الآن يستدعى حالة من تعبئة الجهود بين النخبة المصرية لتصحيح الصورة الذهنية للدولة المدنية، لمواجهة هذا الترويج المستتر لفكرة الدولة الدينية سواء عبر طغيان الأشخاص أو نشر الأفكار والشعارات، الناس فى الشارع المصرى على استعداد لتقبل كل ما هو جديد بشرط أن يسعى أحدهم لشرحه وتبسيطه، الناس فى مصر يريدون أن يقف أحد أمامهم ليخبرهم أن الدولة المدنية والعلمانية كلمات لا علاقة لها بالكفر، وليست ضد الدين بقدر ما هى كلمات تعبر عن حالة ناقشها البرلمان الفرنسى أثناء إعداد الدستور عام 1946، ووصفها بحالة حياد الدولة حيال الديانات بما يعنى التأسيس لدولة مؤسسات تقوم على الفصل بين الدين والسياسة، لأن الديانات بها مذاهب وآراء واجتهادات ومعتقدات واختلافات وإشكاليات ولا يجوز اهتمام الدولة ولا مؤسساتها المدنية أو انخراطها فى هذه الاختلافات، لأن مهمة الدولة المدنية الدستورية هى المحافظة على كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن الدين والجنس والفكر، وهى تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين باعتبارها روح مواطنة تقوم على قاعدة الديمقراطية وهى المساواة فى الحقوق والواجبات.
نحن إذن أمام تحد آخر بخلاف الحرب على الفساد وبقايا النظام السابق، حرب هدفها الرئيس توعية المواطن المصرى بالمفاهيم التى نريد لمصر أن تسير على خطاها خلال المستقبل القادم، حملة تهدف إلى ترويج الأفكار بلا تخوين أو اتهامات أو تدليس أو تزييف، حملة خالصة لوجه الوطن تضع المواطن المثقف قبل المواطن البسيط أمام صندوق الانتخابات وهو قادر على رفض الخيارات التى قد تأخذ مصر نحو نموذج ولاية الفقيه أو حكم العمة والقفطان، وهو نموذج قاسٍ لأن كلمة "لا" فى ظل هذا النظام ستبدو ببساطة وكأنها "لا" للسماء وللدين، ووقتها سيصبح التكفير سلاحا للقتل لا للترهيب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة