لم يعد من المتصور التشكيك فى وطنية ثورات الشارع العربى الهادرة فى أنحاء متفرقة من عالمنا العربى.. بل من ضحالة العقل أن تختزل اللحظة التاريخية لانتفاضة العقل العربى فى بضعة أصابع خارجية مأجورة.. فهى بالفعل تلفيقات استهلكنا منها أطنان طوال سنوات مضت، ولم يعد هناك متسعاً للمزيد منها بين ثنايا العقل العربى المتآكل.. لكنك فى أحيان كثيرة لا تملك نفسك أيضاً من الاشتباك بعلامات الاستفهام مع نمط التدخلات المريبة لأطراف خارجية لها تاريخ أسود فى احتلال شعوب المنطقة لعقود طويلة، ولم تُبدٍ حتى الآن اعتذارها أو استعدادها للتعويض عن ما اقترفته من جرائم وانتهاكات معاصرة فى العراق وتاريخية فى مصر، ما يدفعنا لإعمال العقل بحثاً عن طيف خفى يربطها بموجات "تسونامى" المتجولة فى عواصمنا العربية.. تحليل الظاهرة عادة يبدأ باستقصاء نطاقها الجغرافى، وهنا نكتشف أنها لم تغادر العواصم العربية.. لم نشاهدها فى لندن وباريس وبرلين أو واشنطن وروما.. فهى مؤكد عواصم لا تعانى من احتقان ديمقراطى ودائمة التخلص من أصنامها بأدوات ديمقراطية شديدة الانتظام، لكنها أيضا ليست مجتمعات بلا خطايا أو سقطات ولن تكون بعيدة فى لحظة ما عن الشرر المتطاير من الشرق الأوسط لكى تمارس أدوار العناية الإلهية فى ميدان التحرير، أو تفكر فى أن تنسب لنفسها نجاحات الثوار.. لا يجب أن ننسى أن تلك القوى كانت شريكاً أساسياً، حين غضت الطرف مراراً وتكراراً عن جرائم الأنظمة العربية، وأصدرت لها على مدى عقود شهادات الصلاحية المضللة، لذا يصبح من غير المفهوم أو المبرر تجول رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون فى ميدان التحرير للوقوف على آخر مستجدات الثورة المصرية، وما أحدثته من تغيير، ثم ممارسة منهج الفرز والتجنيب فى لقائه بممثلين عن شباب ثورة "25 يناير" وعدد من القوى السياسية، دون لقاء من يمثل جماعة الإخوان المسلمين، مبرراً عدم اجتماعه بجماعة الإخوان المسلمين بأنه ليس تهميشا لدورهم فى منظمات المجتمع المصرى، وإنما رغبة فى التركيز على شباب الثورة والتعرف على آرائهم وأفكارهم".
ثم تتزامن زيارة كاميرون مع أخرى مماثلة لوفد أمريكى ضم أعضاء من الكونجرس ومسئولين من الإدارة الأمريكية لاستكشاف الأوضاع السياسية فى مصر وملامح المرحلة المقبلة مستخدمين نفس أسلوب الفرز والتجنيب للقوى السياسية بقصر الزيارة على حزب الوفد، ولقاء قيادته دون باقى القوى الوطنية المصرية، والإعلان أيضاً عن وصول مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشئون السياسية ويليام "جيه بيرنز" لإجراء اجتماعات مع مسئولى الحكومة المصرية وممثلى المجتمع المدنى، فى تتابع يثير استفزاز قوى التغيير الوطنى ويُعيد إفراز الاحتقان الشعبى من التدخلات المبهمة بعد فترة تردد وتأرجح أمريكى فى تحديد موقف صادق من الثورة الشعبية المصرية وعلى طريقة الانتهازية المتعارف عليها بأن ما لا يدرك كله لا يترك كله!!
لا ينبغى بأى حال من الأحوال أن يمر ترتيب البيت الوطنى عبر بوابة "دواننج ستريت" حيث مقر الحكومة البريطانية، أو من المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض، لـكليهما رصيد مشين من الانتهاكات والجرائم الإنسانية فى العراق وأفغانستان، وأيديهما تقطران بالدماء العربية، ولا يشرف أى ثورى مصرى أن يصافحهما، كما أن هزيمة مشروعهما الإمبراطورى المأزوم فى العراق ولبنان وطهران وأفغانستان يدفعهما باتجاه السطو على أية نجاحات ثورية ربما تعيد التوازن لمراكزهم السياسية المختلة فى مواجهة شعوبهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة