تمر الأيام ونحن نتابع ما يحدث فى شوارع مصر بمدنها المختلفة ونرى الشرفاء وهم صامدون بما حملوا فى قلوبهم من حرية وعزة وكرامة وعشق لتراب الوطن ولكن يصر الأمن على أن يلوث التاريخ، ومشاهد البطولة فبعد أن دافع عن الإسماعيلية منذ 60 عاما يحاصر الآن السويس ويطلق عليها 13 ألف جندى نيرانهم ويبرحون المصريين ضربا بالهراوات، ويسقط شهداء السويس والإسماعيلية ويلقى الأخيار من شباب ورجال الوطن فى السجون وتنتهك الحرية وتغتصب الإرادة فى مشهد أسود حالك إلا أنه يمتلئ بكفاح شعب طالما كان قادر على فرض إرادته.
لن أصيغ النظريات أو أعيد ترتيب الجمل وإنما نرتب سويا صفحات التاريخ, دعونى آخذكم فى رحلة قصير إلى ماض مشرف حين كان العدو هو المحتل الأجنبى والقاتل إما جندى بريطانى وإما عميل خائن.. أعود بكم 76 عاما إلى الوراء، حيث إنه فى صباح يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1935 وقبل أن تبلغ الساعة الثامنة صباحًا اندفعت سيول الطلبة من أبواب جامعة القاهرة واحتشدوا بالفضاء الواسع أمامها حتى وصل عددهم إلى سبعة آلاف طالب أو يزيد فى مظاهرة سلمية احتجاجا على الموقف السياسى الراهن وقتها وما جنته سياسة الاستعمار على مصر.
وبعد الساعة العاشرة بدأ زحف الطلبة نحو القاهرة لزيارة بيت الأمة وضريح سعد زغلول واتجه معظمهم فى سبيله إلى ذلك ناحية كوبرى الجلاء وبعد أن اجتازوا الكوبرى انضمت إليهم مظاهرة أخرى فزاد عددهم كثيرا ولما أرادوا اجتياز كوبرى الإسماعيلية (التحرير الآن) اعترضتهم قوة من البوليس ومنعتهم بالقوة وأطلق الجنود الإنجليز من قشلاق قصر النيل (مكان جامعة الدول العربية الآن) الرصاص على الطلبة فسقط عدد من الشهداء.
وفى اليوم التالى الخميس 14 نوفمبر 1935 اتخذ بوليس الجيزة منذ الصباح الباكر احتياطاته وتدابيره لمنع الطلبة من التظاهر، إلا أن الساعة ما لبثت أن أشارت إلى الثامنة صباحا واحتشد طلبة كلية الحقوق والآداب بفناء الجامعة الداخلى وأخذوا يهتفون بحياة مصر وضد الإنجليز.
ثم خرج الطلبة إلى الطريق العام فى اتجاه كوبرى عباس وعندما وصلت المظاهرة إلى منتصف الكوبرى (حدود العاصمة) انسحبت قوات بوليس الجيزة واجتاز الطلبة الكوبرى وما كادت مقدمتهم تبعد أمتارا حتى فوجئوا بقوة إنجليزية كانت مترصدة لهم بدأت فورا فى إطلاق النار دون إنذار.
أصيب الطالب محمد عبد المجيد مرسى من كلية الزراعة برصاصة مباشرة فى الصدر فكان الضحية الأولى فأسرع به زملاؤه وحملوه على أيديهم إلى مستشفى قصر العينى إلا أن إصابته لم تمهله فمات فى الساعة الرابعة ظهر اليوم نفسه وقرر الطبيب الشرعى أن الرصاصات أحدثت نزيفا فى تجويف الصدر نتجت عنه الوفاة.
وقد أرسلت الحكومة قوة إلى المستشفى استولت على جثة الشهيد ونقلتها ليلا إلى الإسكندرية حيث يقيم والده وذلك حتى تحول الحكومة بين الطلبة وبين تشييع جنازته.
وقد أرسل الطلبة برقية إلى والده يقولون فيها:
"لقد استشهد ابنك وروت دماؤه أرض مصر، فنال شرف الاستشهاد فى سبيل الوطن، فدوموا بهذا الشرف.. أبقاكم الله ذخيرة للبلاد".. وسافر وفد من الطلبة يمثلون مختلف الكليات إلى الإسكندرية لمواساة أسرة الشهيد.
كما وقعت عدة إصابات أشدها ما تعرض له الطالب محمد عبد الحكم جراحى طالب كلية الآداب حيث أصيب بثلاث رصاصات فى بطنه فحمله زملاؤه أيضا إلى قصر العينى مضرجا فى دمائه فبقى يغالب الموت مؤمنا صابرا يستقبل مصيره محتسبا لربه ووطنه، وكان الطلاب حوله يزورونه باستمرار وينقل مندوبو الصحف أخباره فتنشرها الصحف فتثير مشاعر المواطنين، وكان عبد الحكم شابا فى العشرين من عمره وسيم الطلعة يلتمع الذكاء فى عينيه، فكان شعور الشعب نحوه عميقا.
وقد ذكرت الصحف وقتها إنه كتب وهو على سرير المرض خطابا إلى مستر (بلدوين) رئيس الوزراء البريطانى قال فى مطلعه..
"إلى بريطانيا.. روح الشر"، وذكر ظلمها وعدوانها على الشعوب وتنبأ بقرب زوال إمبراطوريتها، كما طلب ورقة وكتب إلى زملائه يقول..
"إخوانى الأعزاء: إنى أشكر لكم شعوركم السامى بالنسبة لما أديته واعتبره أقل من الواجب فى سبيل البلد الذى وهبنا الحياة بل وهب الحضارة للعالم".
وبعد خمسة أيام قضاها عبد الحكم فى المستشفى بين الحياة والموت فارق الحياة شهيدا فى سبيل وطنه، وفى صباح السبت 16 نوفمبر خرج طلبة كلية دار العلوم فى مظاهرة احتجاجية حدثت على إثرها نفس الاشتباكات المعهودة وأصيب عدد من الطلبة إصابات خطيرة، وتلقى الطالب على طه عفيفى ضربا شديدا على رأسه أحدث ارتجاجا فى المخ وكسرا فى قاع الجمجمة فوقع صريعا على الأرض مضرجا فى دمائه، وشيعت جنازته فى اليوم التالى فى موكب مهيب حضره زملاؤه بالكلية وأساتذته وحشد كبير من المواطنين.
ولم يكن هؤلاء هم آخر الشهداء الذين قدموا أرواحهم عن طيب خاطر خارج الميدان، لكنهم كانوا اللبنة التى أخذت فى النمو يوما بعد يوم حتى خرج المحتل من البلاد فرحمة الله عليهم أجمعين.
وهنا أقول لكل الذين يدعون أنهم باقون لمصلحة الوطن ولأجل أبنائه.. أنتم تقتلون أبناء الوطن والعالم يرى ويسمع ويرفض، وتغتالون الحرية وتمتهنون الكرامة وتتناقضون مع ذواتكم, إن المصريين رافضون للنظام الحاكم ومطالبون بسقوطه وكلهم إصرار وهو ما سيتحقق عاجلا وليس آجلا.
يا أيها النظام.. ارحل فى هدوء
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة