فى واحدة من حكاياته الرشيقة، وبأسلوبه الساخر الجميل، أذكر ما قاله الكاتب والقيادى اليسارى اللامع الراحل الدكتور أحمد عبد الله رزه، كان ذلك فى عام ١٩٩٠ فى إحدى الندوات عن التقرير الاستراتيجى الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
وحين تعرضت المناقشات إلى إغفال التقرير لقضية الشباب والشيوخ فى الأحزاب والسلطة، وتشبث الشيوخ بمقاعدهم حتى لو بلغ بهم العمر أرذله، وبالتالى ضياع فرص الشباب فى التواجد على خريطة قيادة العمل السياسى.. قال أحمد عبد الله وهو يبدى رأيه حول ذلك: «مرة بنتناقش وبغضب مع الأستاذ زكى مراد رحمه الله (قيادى شيوعى بارز)، وبنقول له، يا أستاذ، فين فرصة الشباب؟ فرد علينا: "اسمع يا واد أنت وهو، هو الكبار يعملوها، ويتعبوا فيها، وأنتم عايزين تاكلوها ولعة، وتاخدوها ع الجاهز».
ضجت القاعة يومها بالضحك على القصة، وعلى أداء الدكتور أحمد عبد الله رحمه الله أثناء روايتها، وبالرغم من تغير الظروف، واختلاف السياقات التى يمكن الاستدلال من خلالها بمثل هذه الحكايات على قضية الشباب والشيوخ فى العمل العام وفى القلب منه العمل السياسى، فإننى أستحضر هذه القصة بمناسبة ما قيل من بعض القيادات الحزبية فى حق شباب الـ«فيس بوك»، الذين خطفوا الأضواء من الأحزاب والجماعات السياسية الأخرى، منذ إضراب ٦ إبريل الماضى والناجح نسبياً، ثم إضراب ٤ مايو (الفاشل بجدارة).
وصف الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع، جماعة الـ«فيس بوك»، وبلغة استعلائية منه بـ«شوية عيال لاسعين»، ولما ذهب وفد من هؤلاء الشباب منذ أيام لزيارة أحزاب المعارضة الرئيسية، وجماعة الإخوان المسلمين، سار منير فخرى عبد النور سكرتير عام حزب الوفد، على نفس نهج السعيد بقوله عنهم: «دول عيال جايين يبيعوا الميه فى حارة السقايين»، وهكذا توافقت قيادات يمينية ويسارية، واجتمعت على قلب رجل واحد، فى التوصيف السلبى لحالة أفرزتها مستجدات اجتماعية وسياسية وتكنولوجية، تختلف كلية عن السياق الاجتماعى والسياسى والتكنولوجى، الذى جاء منه السعيد وعبد النور، وبدلاً من تصدى الأحزاب من الوفد إلى التجمع ومن يسير على دربهما إلى تحليل هذه الظاهرة، والوقوف على أسبابها، ومعرفة حساسيات الأجيال الجديدة فى التعاطى مع العمل العام، لجأت قيادات هذه الأحزاب إلى التحليل السهل، والتوصيف الفاشل باعتبارهم «شوية عيال».
ماذا فعلت هذه الأحزاب لاجتذاب الشباب إليها؟ وما الذى تعرفه عن المستجدات فى تكنولوجيا الاتصالات؟ وهى الوسيلة التى يتعامل معها الشباب بجنون واضح، وكأنها أصبحت الرمز الجديد لهم، هؤلاء الشباب لم تعد تجتذبهم معارك الماضى السياسية، وخصومات أقطابها، وإنما تجتذبهم الصيغ العملية التى تتلاحم مع معطيات الحاضر.
فماذا فعلت الأحزاب للخروج من دوائر التحنيط التى تتفنن فى الإبقاء عليها، إلى دوائر الحياة العملية للاقتراب مما يبحث عنه هؤلاء الشباب، والمؤكد أن هناك تكوينات اجتماعية جديدة هى خارج التصنيف التقليدى للطبقات الاجتماعية التى كنا نعرفها كالفلاحين والعمال والرأسماليين، هذه التكوينات لديها وعى مختلف، ووسائل مختلفة فى التعبير عن نفسها، لديها نموذج حياة، ربما يكون افتراضياً فى خيالها، لكنه النموذج الذى لا ينفع الاشتباك معه بمفهوم «لعب العيال»، وفى تقديرى أن تجربة أيمن نور فى تكوين حزب الغد، اقتربت من هذا الفهم ليس فيما يتعلق بتكوين قيادات الحزب التى خانته، وإنما بمحاولته الاقتراب من تلك الحساسيات الجديدة المتمثلة فى الشباب.
ظاهرة شباب الـ«فيس بوك»، ربما تنتقل إلى موجة جديدة بفعل مستجدات التكنولوجيا، والمؤكد أنه يمكن انتقادها سياسياً من زاوية أن الارتكان إلى شاشة الكمبيوتر طوال الوقت لن يأتى بقائد سياسى، ولن يأتى بالصيغة السياسية المتكاملة، لكن بدلاً من اتهامهم بأنهم «شوية عيال»، على الذين يرفعون شعار التغيير، ويتصدون له بالفعل، أن يتدارسوا كيفية المزاوجة بين «إدمان الشاشة» وإدمان العمل المباشر بين الجماهير، ولو تم ذلك سنكسب عناصر جديدة تعطى بحساسية مختلفة، وخذوا العبرة فى ذلك من أوباما الذى يسعى إلى الفوز بترشيح الحزب الديمقراطى لانتخابات الرئاسة الأمريكية، أوباما لم يكتفِ بكونه سيناتوراً فى الكونجرس الأمريكى، وإنما تواصل مع المدونين الشباب الأمريكيين فى العامين الماضيين بكتابة التعليقات بنفسه على آرائهم، بل أنشأ مدونة خاصة به يكتب فيها ما يراه، ويتواصل من خلالها مع الآخرين، وجاءته النتيجة بزخم شبابى متعاطف معه على أرضية أنه لعب بنفس وسائلهم لكنه أضفى على لعبته نضجه السياسى الخاص، فمن فعل من النخبة السياسية ومن قيادات الأحزاب عندنا مثل ما فعله أوباما؟
قد يقول قائل، إن الواقع مختلف، وإن ما ينفع هناك ربما لا ينفع هنا، والرد على ذلك يأتى من أن طريق التغيير يبدأ بفكرة ملهمة، وإبداع فى الأساليب، فخذوا العبرة يا قادة أحزابنا، ويا كل دعاة التغيير مما فعله أوباما، وادرسوا ظاهرة شباب الـ«فيس بوك» بعمق، وآمنوا بأن «عيال» اليوم، هم قادة الغد، وانزعوا من قلوبكم «غل» الغضب من كل جديد لا تعرفون عن ثقافته شيئاً، وآمنوا بأن للشيخوخة حكماً يقضى بأن تودعوا كراسيكم واتركوها لمن يستحق.
ملحوظة: كتبت هذه المقال يوم 17 مايو عام 2008، وجاء على خلفية هجوم ضارى شنه بعض قيادات الأحزاب المصرية على شباب الـ"فيس بوك"، الذى أطلوا وقتئذ على المشهد السياسى فى مصر، ومع دورهم الرئيسى فى المظاهرات التى اندلعت منذ الثلاثاء الماضى رأيت إعادة نشره كما هو.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة